رهاب نقص المناعة البشري بين الإصابة والوصمة

بقلم/ محمد البرجي
العمل الفني: حسام عمران

 

​”بس بليز ما تقولش لحد”، هذه هي دائماً العبارة التي يبدأ بها الحوار. هذا الخوف الرهيب من أن يعرف الناس، بل إنه كابوس يأرّقه لبقية حياته، يمشي وراءه كظله. في مصر وعالمنا العربي أكثر من 350 ألف متعايش/ة مع فيروس نقص المناعة البشري، مجهول بلا وجه، بلا إسم. أصبح هذا المرض مثل الشبح موجود وكل الناس تتحدث عنه ولكن لا نرى المتعايشين/ات معه. لا يعلم المتعايش أي معركة يجب أن يخوض، هل المعركة مع الفيروس والمرض الذي ينخر جسمه أم مع وصم المجتمع.

“جمال”، 25 سنة، إصطحب إبن عمه كي يؤازره عند ذهابه إلى مركز الفحص والمشورة. لم يقدر أن يقوم بذلك لوحده. فكرة كونه وحيد في هذه الأزمة كانت أكثر رهبةً بالنسبة له من أن يعرف شخص بإصابته بالفيروس. قبل الذهاب إلى المركز، كان على شبه يقين أنه سيجد نفسه إيجابي التحليل . كان يردد قبلها، أنا أعلم أنه انتقل لي، لا يمكن أن أفلت منه. مرّت مرة على خير ولكن ليس هذه المرة. كان يصلي ويدعو ربه قبل الذهاب وفي طريقه أن يخيّب الله ظنه ويكون سلبي التحليل.

​أما “غريب” 30 سنة، لم تكن هذه المرة الأولى التي يذهب فيها إلى المركز. فهو ملتزم ويذهب كل 6 أشهر للفحص. يقول: “ينتابني نفس الشعور في كل مرة آتي فيها إلى هنا، أعلم أني في يوم من الأيام سوف أسمع عبارة: “التحليل ظهر إيجابي”. لا أعلم ماذا سوف أفعل حينها، ولكن ستحدث”. في السابق، كان يسعد بالنتيجة أنه معافى، ولكن الآن لم تعد تؤثر فيه كونها فحصاً دورياً له وكونه أصبح يعرف الكثير عن الفيروس والتعايش. ولكن هذه المرة مختلفة بالنسبة له، كونه لم يحافظ على حماية علاقاته الحميمية خلال الأشهر الأخيرة. ومازال متوتر لمعرفة النتيجة.

“لا يستطيع الفيروس أن يعيش خارج جسم الإنسان، يموت فور تعرضه لأضعف المنظفات أو حتى ماء الصنبور العادي، أو إذا تعرّض للهواء لثواني قليلة، واستحالة العدوى بمخالطة متعايشين في الحياة العامة”

​هكذا كان يرد “محمد”، باحث ميداني وناشط في مجال فيروس نقص المناعة البشري ومرض الإيدز، أثناء عمله الميداني عند إصرار أحد الأشخاص على معلومات خاطئة عن فيروس نقص المناعة البشري. يجلس “محمد” وزميله في أحد الكافيهات في المهندسين بالقاهرة برفقة شخصين آخرين أتى أحدهما للحصول على أوقية ذكرية مجانية. يشكك هذا الشخص بما يقول “محمد” ويدّعي أنه قرأ في الجريدة أكثر من مرة عن هذا الموضوع وأنه يمكن أن ينتقل الفيروس بالعطس مثل الإنفلونزا أو حتى باستخدام أدوات الطعام لشخص متعايش. فيرد ويأكّد “محمد” على خطأ معلوماته ويعطي كتيب توعوي لهذا الشخص. تنتشر خرافات عديدة عن الفيروس وعن طرق إنتقاله، والتي ترسخ دائماً أشكال من الوصم وتسبب معاناة للمتعايشين/ات. وهذا ومع العلم بأن طرق انتقال هذا الفيروس لا تختلف عن طرق انتقال فيروسات الكبد الوبائية ب و ج، المصاب بهما 16% من المصريين، في حين نسبة الإصابة بفيروس نقص المناعة البشري ما زالت تحت 0.1 % من إجمالي السكان.

​ك”رامي”، 32 سنة، فقد ذهب للفحص منذ أكثر من 8 سنوات عندما علم من أناس يعرفهم، أنهم قد ذهبوا للفحص ووجدوا أنفسهم إيجابيّ التحليل. ذلك لأن الكثير منهم قام بممارسة الجنس مع ذات الشخص، الذي وجد أنه متعايش وقد نقل العدوى لزوجته أيضاً. وبدأ يسقط شركائه الجنسيين كالخرز من خيط مقطوع، يتساقط أحدهم بعد الآخر عند سماع خبر أنه متعايش، كان عليهم الاختباء جميعاً، لأنه حتى عام 2006 كان يتم حجز كل متعايش مع فيروس نقص المناعة البشري في عنبر الأمراض المناعية في مستشفى الحميات.

يقول “رامي”، “كنت أتمنى أن أولد بعض سنوات متأخراً، كنت أتمنى لو ان احد نبهني بهذا الفيروس وكيف أحمي نفسي منه، ربما لو حدث ذلك، ما كنت لأكون متعايش مع هذا الفيروس الذي يقتلني ببطء”. ويضيف عند سؤاله عما اختلف الآن عن ذلك الوقت ، فيرد بأنه أصبح هناك منذ سنوات برامج توعية بفيروس نقص المناعة البشري بين المثليين، أو الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال، والمدمنين بالحقن في مصر وهو عمل إيجابي جداً “ولكنه محدود” ويجب أن تزيد هذه المشاريع أكثر. ولكنه يستنكر نفور الكثير من المثليين منها، معللاً ذلك بأن الحديث عن الجنس و نشاطاتنا الجنسية ما تزال من المحرمات حتى وإن كان بين فئة نشطة جنسياً أو ربما يكون ابتعادها عن هذه المشاريع ومجموعات العمل الميداني ” إبتعاداً عن الوصمة التي يحملها هذا المرض”.

ويؤكد “جمال”، أنه سمع بهذه المشاريع كثيراً ولكنه لم يهتم أن يسمع أو يستفيد. كان دائماً يقول أنه يختار شركائه بعناية، “لازم يكونوا نضاف كده وولاد ناس”. بالرغم من أن أصدقاءه قد نصحوه مراراً أن يتخذ إجراءات الحيطة والحذر ولكن لمعان مغامراته الجنسية كانت تجذبه أكثر من العقل والمنطق.

أثناء جلسة المشورة قبل الفحص، يسأل أخصائي المشورة “غريب” أسئلة تخص نشاطه الجنسي في الفترة الأخيرة. يشعر “غريب” بالحرج عند الحديث عن علاقاته الجنسية ولكنه يقول، “أنني أمارس الجنس الآمن في أغلب الأوقات، ولكن في الفترة القليلة الماضية كان يوجد لدي ضغوطات كثيرة وكان الجنس هو المنفذ المريح لي”. وعند سؤاله عن سبب سهوه في هذه المرات القليلة يعلل بأنه لم يكن يحمل معه أوقية ذكرية لأنها قد نفذت منه وبأنه يخجل من الذهاب بنفسه لشراء الأوقية الذكرية من الصيدلية “أكره أن يرمقني أحدهم نظرة احتقار أو دونية أثناء شرائي لها”. ولدى العديد من أصدقائه تجارب سيئة عند شراء الأوقية الذكرية أو المزلق الجنسي. “كنت أتوقع وجودها مع الطرف الآخر. وعند وصول الشهوه الى ذروتها ،سألت حينها عن الواقي ولم أجده، لا أجد نفسي إلا أضعف من أن أتوقف فأكمل هذه الممارسة حتى النشوة، وبعدها عند ذهابي إلى الحمام منفرداً لأستحم، ابدا بلوم نفسي على ما فعلت، ربما تكون هذه هي المرة التي أُصاب بها”. ويضيف متوتراً، لا يعلم ما يدور في رأسه حينها. مرة وجد أن شريكاً جنسيا عابرا كان مصاب بعدوى جنسية أخرى، قمل العانة. ولم يعرف ما هذا الشيء، لم يردعه ذلك عن ممارسة الجنس معه وهو يعلم أنه حتماً سوف يصاب بالعدوى، بعد الإنتهاء من الجنس، وبعد ان عاد له صوابه وتوجه إلى الصيدلية مباشرة ليسأل عن دواءٍ له ولذلك الشخص.

يدخل شخصان بسرعه على الطاولة داخل الكافيه الذي يجلس عليها “محمد” وزميله أثناء عملهما ليسأل أحدهم: “إحنا سمعنا إن “ميكا” عنده الإيدز. الكلام ده صح؟ إنت لازم تقول للناس كلها يخلوا بالهم منه”. بعد دعوتهما للجلوس والحديث. قال زميل “محمد”: “إحنا مش قلنا إن الفيروس مابينتقلش من خلال التعامل مع المتعايشين في الحياة اليومية ولا الشغل. و تقدر تحمي نفسك بأنك تستعمل الكوندم والچل دايماً كل مرة تعمل سكس أو تدوّرلك على شريك او تبطّل سكس خالص”. ويسانده “محمد”، “وبنقول تاني إن الكوندم بيحميك بالكامل من الإصابة بالفيروس، حتى لو الطرف التاني متعايش مع الفيروس”. ينصرفان دون أن يكترثا بما قيل لهما، “دماغهم جزمة. اللي في راسهم، في راسهم” يتمتم “محمد” ضارباً كفاً على كف.
يأكد “محمد”، “أنا مش قاعد بقضي وقتي على الكافيه، أنا بشتغل بجد. الناس دي تهمني، أنا منهم”. ويضيف بأنه وفقاً للأرقام العالمية 60% من إجمالي عدد الإصابات الجديدة تكون بين فئة الشباب ما بين 16 و24 سنة.

ويحلم “محمد” بأن يستطيع أن يتوسع في عمله وينشر رسالة التوعية لكل شخص، ولكن “هذا العمل يحتاج لمناخ حر ومنفتح بصورة قصوى لعمل مشاريع مثل مشروعي هذا ومناخ آمن لعملي كباحث ميداني”. أن برامج التوعية الميدانية ومراكز الاستقبال لا تكفي وضعيفة للغاية، وعلى مؤسسات الدولة السيادية الإعتراف بهذه المشاريع ودعمها، و”ليس فقط تركها تعمل كما يحدث الآن”. ويضيف، “بالرغم من أن نسبة الإصابة في مصر من أقل النسب عالمياً ولكن معدل الإصابة (عدد الحالات الجديدة في السنة) في إزدياد مستمر بصورة مفزعة”.

تتكدس هذه الإصابات بين الفئات الأكثر عرضة ومنها الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال، حيث تمثل 30% من إجمالي الحالات في مصر، وفي داخل هذه الفئة وصلت نسبة الإصابة لـ6% وفقاً لأحد البحوث الطبية في مصر سنة 2007.

​أثناء إنتظار “جمال” النتيجة، كانت والدته تقوم بالإتصال به ولم تتوانى عن تكرار المحاولة. وبعد دقائق مرت عليه كالدهر. طلب إخصائي المشورة دخول “جمال”. لاحظ إختلاف التدابير عن أي مرة سابقة، حيث كانت النتيجة مختلفة عن أي مرة سابقة أيضا. قام أخصائي المشورة بأخذ عينة أخرى تأكيدية وطلب من “جمال” العودة بعد شهر لاستلام النتيجة. يسترجع “جمال” ذكرياته وهو جالس على نفس الكرسي الذي سمع فيه سابقاً أنه معافى وتوبيخ أخصائية المشورة له ووعده لها بحماية نفسه.

ما زالت والدته تحاول الإتصال به، إستجمع أنفاسه ورد عليها. بدون مقدمات: “عملت إيه؟ وقفت قلبي!”. أجاب بـ”الحمد لله”. وأكد لها ذلك أكثر من مرة ليطمأنها. ولكنه لم يجد أحداً يواسيه، فقد ظهرت النتيجة إيجابي التحليل. جزء كبير من أحلامه سقط أمامه كالرصاص. لقد كان يهيء نفسه للسفر لوظيفة مرموقة كان يحلم بها، ولكن لن ينالها بعد الآن. كما أن أمه أقسمت بأن يترك المنزل في حالة كونه إيجابي التحليل لأنها “مش عايزاك تعدي حد من اخواتك”. في هذه الأثناء كان ابن عمه جالساً يراقب في إندهاش ما يحدث دون أن يفهم شيء. كان “جمال” أكثر قوة من أن يظهر ضعفه ، فقد همّ بترك المكان وقال أنه يود النوم، النوم طويلاً.

​أما عن “غريب”، فلم يتغير شيء بالنسبة له. خرج ولا توجد أي علامات على وجهه، لا فرحة لاجتيازه هذا المأزق أو حزن ودموع لإصابته. بل خرج غير مبالي، لأنه يعلم أن هذه ليست النهاية وأن عليه أن يأتي مرات عديدة قادمة إلى نفس المكان للفحص الدوري. ولكن يردد سأحاول أن أكون سيّد الموقف المرة القادمة و أستطيع أن أحمي نفسي من الإصابة. وردّد: “ربنا يعافينا جميعاً!”.

 

 ​*- هو مصطلح يستخدمه مجتمع الميم والكثير من المتعايشين للإشارة إلى فيروس نقص المناعة البشري ومرض الإيدز. حيث أن الكلمة أقل وطأة وايضا كتصغير له.

 

 

(English below □) . كجزء من فعاليات يوم الإيدز العالمي، ينظم مجموعة من الناشطين حركة رقمية على موقع التواصل جريندر، لنبذ العار والجهل والحد من انتشار الفيروس، عبر المعرفة، التوعية والوقاية. يمكنك الانضمام الآن عبر الرابط المتوفر في أعلى الصفحة ☝ #يوم_الايدز_العالمي #جنبك . To mark #World_AIDS_Day 2017, a group of local activists in #Jordan are organizing a digital demonstration on the popular social app #Grindr, to help end shame, ignorance and transmission of #HIV virus; through knowledge, awareness and prevention. You can join the one day movement, too. More information, link in bio ☝ #WAD2017 #WorldAIDSDay #LetsEndIt #WAD17 #NEXT

A post shared by My.Kali Magazine (@mykali) on