بقلم فادي زغموت
تصميم المصمم الجارفيكي\الفنان هيثم شالرلز

 

لكل منّا هوية وكيان، ولكل منّا نظرته لنفسه وللعالم من حوله. نعرف ما يميّزنا وما يميّز غيرنا، فتنمو مع الأيام صورة لأنفسنا في ذهننا تقر علينا طريقة عيش حياتنا وتقبّلنا لما يناسبنا وما لا يناسبنا. ولكن هوية الفرد منّا نادراً ما تكون هويّة جامعة دون أي تناقضات، فهي في العادة عبارة عن مجموعة من الهويات المتداخلة التي تبنيها القوى الاجتماعية المتصارعة، فهناك الهوية القومية والوطنية التي تحاول الدولة ترسيخها في كيان شعوبها، وهناك الهوية الدينية التي تفرضها المؤسسات الدينية على اتباعها للمحافظة على وجودها وديمومتها، وهناك الهوية الجندرية التي باتت حجر الأساس للتقسيم الاجتماعي وفرض الأدوار الاجتماعية على الفرد.

ولكن كيف تتفاعل هذه الهويات مع بعض؟ ومن يطغى أكثر منها على الآخر ولماذا؟ فعلى سبيل المثال، كيف يمكننا مراقبة التفاعل بين الهوية الوطنية الأردنية وبين الهوية الدينية لأفراد المجتمع؟ ما هو الفرق بين أردني مسلم و أردني مسيحي؟ وهل تتقدم الهوية الوطنية على الهوية الدينية دائماً؟ وما هو ارتباط بين الفرد بهويته الوطنية؟

فنحن نعرف أن الأردن دولة مدنية، لكنها دولة إسلامية أيضاً، ويقر دستورها بالشريعة الإسلامية كأول مصدر من مصادر التشريع في الدولة. ولكن أيعني ذلك أن الهوية الوطنية للمسيحي في الأردن أقل شدة من تلك التي يحملها المسلم؟ قد تكون كذلك لو كان هنالك تمييز واضح في القوانين الشرعية ولكنه لا يوجد. فالعدل أساس الحكم، وقد نجحت الدولة بالمحافظة على مستوى من العدالة يسمح للمسيحي بأن يوافق بين هويته الدينية وتلك الوطنية ولو كانت هويته الوطنية تحمل الكثير من ديناً مختلفاً.

قد تبدو الهوية الجندرية متقدمة على كل من الهوية الوطنية والهوية الدينية، فهي مترسّخة في اللغة قبل أن تجد لها صداً في الدين والتشريعات الوطنية. فلا سبيل للفرد أن يعرف عن نفسه دون أن يقر بنوعه الاجتماعي كان ذلك بشكل مباشر أم بشكل ضمني.“أنا أردني مسلم” قد تختلف عن “أنا مسلم أردني” في تقديم الهوية الأهم للشخص المعرف عن نفسه، لكن كلا الجملتين تقدمان الهوية الجندرية وتقران بأن المتحدث رجل. ف”أنا أردني مسلم” لا تختلف عن “أنا رجل أردني مسلم” لكنها تختلف عن “أنا أردنية مسلمة” أو “أنا إمرأة أردنية مسلمة”. وهنا، كمعضلة المسيحي مع الهوية الوطنية، كيف يمكن لنا أن نقرأ التمايز بين شعور الرجل بهويته الدينية والوطنية وبين شعور المرأة بهما في وقت نلاحظ فيه تفضيل الرجل في كل من الدين والتشريعات الوطنية؟

لكن معضلة الهويات، وبالأخص الهوية الجندرية (التي بيّنا أنها تعد الهوية الأساسية) أكبر من ذلك. فنحن نعرف أن هنالك أقلية في المجتمع من متحولي الجنس ممن لا تتوافق الهوية الجندرية التي يحملونها مع تلك التي يريدها المجتمع منهم. فكل من الهوية الدينية والهوية الوطنية تعترفان بنوعين فقط من الجندر (رجل وإمرأة) وتقران بشكل مباشر على ضرورة أن يكون الرجل ذكر وأن تكون المرأة أنثى. لكن الطبيعة لا تعرف الهويات، فتخلق من البشر ما يتحدى حدود الهويات ويؤسس وجود هويات فرعية. فعلى سبيل المثال، هنالك من يخلقون دون أعضاء جنسية متمايزة أو بكلا الأعضاء الجنسية المميز للجنسين، وهم بذلك يعدون تحدياً للمجتمع الذي يعترف بهويتين جندريتين فقط لا ثالث لهما. كذلك فهنالك من الأفراد من يرفضون التماهي مع هوية جندرية مذكرة أو مؤنثة فنراهم يحملون هوية جندرية خاصة بهم قد تحمل مزيجاً من .رجولية و نسائية أو تحاول طمسهما لتؤسس لهوية لا مذكرة ولا مؤنثة.

من اللافت أيضاً الحضور الحديث نسبيّاً للهويات الجنسية المبنية على الميول الجنسية وحضورها القوي وبشكل يوازي أهمية الهوية الجندرية وبشكل يتقدم أحيانا ً على الهوية الدينية والهوية الوطنية. فهوية الرجل الجندرية لا تقتصر على حمله لجنس الذكر، بل تجمع عدة صفات أخرى، والتي يعد أهمها في الوعي الجمعي هي ميول الرجل الجنسية إلى الجنس المغاير. كذلك هي هوية المرأة الجندرية، فهي لا تقتصر على حملها لجنس الأنثى، بل تجمع عدة صفات أخرى وأهمها هي انجذابها للرجل. لذلك فإن وجود رجالاً ينجذبون جنسياً إلى رجال آخرين ووجود نساء ينجذبون جنسيا إلى نساء أخريات اقتضى ظهور هوية جندرية أخرى وهي الهوية المثلية. وهنا الهوية المثلية قد تكون هوية أساسية كأحد خيارات الهوية الجندرية أو قد تدرج تحت هوية فرعية وهي الهوية الجنسية. وذلك يشبه الحال بالطوائف الدينية التي تخلق هويات فرعية للهوية الدينية. فكما أن هنالك أفراداً يفضلون تقديم هويتهم الجنسية على هويتهم الجندرية، كمن يعرف عن نفسه على أنه “مثلي” عوضاً عن أنه رجل، هنالك أيضاً من يفضل التعريف عن نفسه على أنه “سني” عوضاً عن أنه “مسلم”.

أنا شخصيّاً أحترم كافة الهويات، كانت أساسية أم فرعية، فالهويات، رغم معضلاتها وتداخلاتها ومشاكلها، تعطي ألواناً للمجتمع البشري وتذكرنا بمجال اختلافاتنا. لكننا يجب أن نعي أيضا بأن كل تلك الهويات هي هويات مصطنعة وأنه من السهولة استغلالها لتضخيم الفروقات بين بني البشر وخلق النزاعات والهرمية بينهم. لذلك فإني أعتقد أنه من الأفضل لنا أن نتذكر بأهمية هويتنا الإنسانية، كهوية جامعة تحتضن كل تلك الهويات.

فلنقدم إنسانيتنا على أية هوية أخرى.