كتابة تي تي* 


لا يزال مفهوم الرجولية بمثابة مجال بحثي حديث نسبياً في السياق المرتبط بمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط بشكل عام وفي مصر بشكل خاص، ولذا تظل محاولة قراءة الأنماط و التجسيدات لمفهوم الرجولية في الأفلام السينمائية في مصر محدودة بشكل أو بآخر. يمكننا القول أن معظم ما تم كتابته في هذا السياق إما أنه قام بالتركيز على قراءة العلاقات بين الرجال والنساء في أفلام بعينها من منظور النوع/الجندر أو أنه كان منشغلا بتحليل ماهية الصور التي تعكسها أيضاً أفلام معينة للنساء المصريات. من هنا يأتي هذا المقال كمحاولة لقراءة فيلم “السادة الرجال” والذي هو من أهم أفلام الكاتب والمخرج السينمائي المصري الراحل رأفت الميهي والذي يعد واحداً من أهم من استخدموا العبث والفانتازيا بشكل فني كوسيلة مقاومة في مواجهة التابوهات الاجتماعية والدينية والسياسية في مصر. تجدر الإشارة أن اختيار هذا الفيلم لرأفت الميهي لا يعني بالضرورة احتفاء به وإنما هو محاولة لتحليل الرجوليات التي يجسدها ويعرضها هذا الفيلم، خاصة وأن “السادة الرجال” كان واحداً من الأفلام المصرية الأكثر وعياً بعلاقات وأبنية القوى المجتمعية والسياسية التي تترك أثارها بشكل يومي على تجسيدات وأنماط الرجولية في السياق المصري. كذلك من المهم أن نضع في الاعتبار أن تصدي ذلك الفيلم وصانعه رأفت الميهي لمفاهيم و تجسيدات للرجوليات في مصر لم يكن بالضرورة نابعاً من انشغال الميهي بالرجولية كفكرة بقدر ما كان جزءاً من انشغاله بالدور الذي تلعبه السلطة بأبعادها المختلفة في قمع حيوات الأشخاص واختياراتهم الشخصية و الجنسية و الجسدية. أيضاً سيلاحظ من يقرأ/تقرأ هذا المقال الاستخدام المكرر للفظة العبث سواء في العنوان أو في سطور المقال، ولذا وجب التنويه أن استخدام العبث هنا ليس الغرض منه التقليل من فكرة الفيلم أو سياقه أو المشروع السينمائي لصانعه أو حتى القضية التي يتناولها، وإنما العكس هو المقصود فالعبث هنا وبالذات مع توضيح حقيقة خروج هذا الفيلم للنور في حقبة الثمانينيات يعني قدرة رأفت الميهي على قلب قوانين وأعراف اجتماعية رأساً على عقب في فيلم “السادة الرجال” بشكل يتجاوز ثنائية المنطق واللامنطق ليخلق مساحات للتأمل وتحليل قدرة الرجولية مع الأبوية على خلق علاقات قوى غير متوازنة تدفع النساء الثمن الأكبر فيها دوماً وأبداً.

السادة الرجال: حرب الرجوليات

في عام 1987 خرج علينا الكاتب والمخرج السينمائي الراحل رأفت الميهي بفيلمه “السادة الرجال” والذي يصعب تصنيفه في أي من أطر الدراما التقليدية، فبالرغم من مرور 30 عام على ظهور الفيلم إلا أنني كمتفرج مازلت اقف عاجزاً عن اعتباره فيلماً كوميدياً أم أنه ينتمي لعالم الفانتازيا الذي رسخ له الميهي سينمائياً بعد ذلك، أم أنه على النقيض من تلك التصنيفات فيلماً واقعياً حتى النخاع. لا تهمنا التصنيفات كثيراً لأننا في النهاية أمام عمل سينمائي قرر أن يتعامل مع الأدوار الاجتماعية، مع النوع الاجتماعي، ومع الرجولة والأنوثة باعتبارها مثل قطع شطرنج يمكن تحريكها واللعب بها حتى العبث. العبث هنا لا يخلو من المنطلق، بل إنه يبدو كأعلى درجات المنطق في هذا الفيلم. قبل الخوض في تفاصيل الفيلم وأهميته، تجدر الإشارة أن ظهور الفيلم كان متزامناً مع بداية العمليات الجراحية الخاصة بالتحول/ العبور الجنسي في مصر، أو بمعنى أدق بداية مناقشتها اعلامياً، وربما يكون هذا هو ما حفز رأفت الميهي على تقديم فيلمه “السادة الرجال” والذي لا يمكن التعامل معه باعتباره فيلما عن العبور الجنسي بقدر ما هو فيلم عن معاناة النساء في ظل مجتمع أبوي يحظى فيه الرجال بمزايا فقط لكونهم رجالاً. أي أن العبور الجنسي في الفيلم لم يكن عبوراً جنسياً بقدر ما كان وسيلة للمقاومة.

“السادة الرجال” فيلم تدور أحداثه حول “فوزية” والتي قامت بتجسيد دورها الراحلة “معالي زايد” وعن معاناتها اليومية مع زوجها “أحمد” والذي قام بلعب دوره الراحل “محمود عبد العزيز”. فوزية وأحمد لهما ابن وكلاهما يعمل ولكن تظل المعارك اليومية المرتبطة بتربية الابن والاعتناء بالمنزل من نصيب فوزية وحدها، ففوزية تقوم بالأعمال المنزلية والتي يمتنع زوجها عن القيام بها. معارك فوزية لا تنتهي هنا، فهناك الرجال الذين يتحرشون بها جنسياً سواء في طريقها الى العمل أو في مكان العمل نفسه حتى أنّها معروفة في المكتب باسم “فوزية ام رجلين حلوة”. في لحظة ما، تقرر فوزية التمرد على يوميات المعاناة وأن تختار لنفسها مساراً اخر يتلخص في أن تقوم بعملية جراحية تصبح بعدها رجلاً. وفقاً لرأفت الميهي صانع الفيلم، فإن هذا المسار المختلف الذي اتخذته فوزية كان فرصتها لمقاومة الرجال بأن تصبح منهم بعد أن كرهت معاناتها كامرأة. في إطار تغلب عليه الكوميديا، تبدأ حياة فوزية في التحول بعد أن أصبحت رجلاً اسمه “فوزي” فهي من ناحية تنتقم من كل من أساءوا إليها عندما كانت امرأة وبالتحديد زوجها وكذلك زميلها في العمل الذي كان يتحرش بها ومن ناحية أخرى تحاول أن تصبح رجلاً أفضل بعد أن أضافت إليه تجاربها كامرأة عانت من الرجال ومن أبوية المجتمع. تتجلى تلك التحولات في المشهد الذي يقوم فيه فوزي (فوزية سابقاً) بضرب أحمد الذي كان متزوجاً من فوزية أو في المشهد الذي يوبخ فيه فوزي زميل له في العمل يحاول التحرش بإحدى العميلات. تحولات الأحداث تصل إلى أقصاها عندما يتقدم فوزي لخطبة زميلة له في العمل منذ أن كان امرأة اسمها فوزية.

ربما لن يثير فيلم “السادة الرجال” نفس الجدل الذي أثاره وقت عرضه في نهاية فترة الثمانينيات اذا تم عرضه الآن خاصة وأن قضية العبور/التحول الجنسي أصبحت على طاولة النقاشات الاجتماعية والإعلامية في مصر، ولكن ما يجعل الفيلم مهماً ليس فكرة الانتقال من الأنوثة للذكورة، خاصة وأن الميهي لم يركز عليها في الفيلم بالقدر الذي يجعلنا نتصور أن الفيلم يتصدى باستفاضة لحق الأشخاص في العبور من جنس لاخر، وإنما أهمية الفيلم تتلخص في إعادة صياغته بشكل عميق وجميل سينمائياً للمفاهيم المرتبطة بالأنوثة والذكورة بل وبشكل أخص لمفهوم الرجولية. يمكننا القول أن “السادة الرجال” هو سرد سينمائي ساخط وغاضب وممتع لما يمكن وصفه بحرب الرجوليات، فبطلة الفيلم فوزية لم يعد أمامها اختيارات أخرى سوى أن تصبح رجلاً حتى تتصدى للرجال وتتحدى تصوراتهم و تجسيداتهم لرجولياتهم. لم يكن أمام فوزية سوى أن تصبح فوزي حتى تثبت لزوجها أحمد الذي استغل سلطته كرجل ورفض تطليقها وكذلك لزميلها الذي كان يتحرش بها جنسياً أن هناك مساحات لرجوليات بديلة ومختلفة ليست قائمة على احتكار امتيازات بعينها أو اهانة أجساد النساء والاستهانة بها فقط لكون الشخص قد ولد ذكراً. لم يكن أمام فوزية سوى أن تصبح رجلاً حتى تستطيع الوقوف في وجه منظومة اجتماعية ظالمة تجاهلتها عندما كانت امرأة وانتبهت لها فقط عندما أصبحت رجلاً، ولكن فوزي، والذي كان بالأمس فوزية لم يكن رجلاً تقليدياً وكذلك لم تكن رجوليته أبوية بالشكل المقبول اجتماعياً، وإنما كان رجلاً يحمل على كتفه أرشيف من المعاناة التي كان قد عاشها كامرأة. بكلمات أخرى يمكننا القول أن الرجولية التي يعبر عنها فوزي في فيلم “السادة الرجال” قد تبدو تقليدية من حيث تبني أدوار خاصة بحماية النساء أو من حيث التمتع بالامتيازات التي يمنحها المجتمع للرجال ولكنها في النهاية رجولية تحمل في صميمها تضامناً مع النساء اللائي يحرمهن نفس المجتمع من نفس الامتيازات.

لعلها مصادفة أو لعله العكس تماماً أن يتشابه اسم هذا الفيلم مع فيلم “للرجال فقط” الذي قامت ببطولته سعاد حسني ونادية لطفي في الستينيات والذي تدور أحداثه عن مهندستين اضطرتهن الظروف للادعاء بأنهنّ رجال حتى يحصلن على فرصة للعمل في موقع للتنقيب عن البترول بعد أن كادت تلك الفرصة أن تضيع منهن لكونهن نساء، فالتشابه هنا ليس في الأسماء فقط وإنما في القصة أيضاً بشكل أو باخر. إلا أن أي محاولة للمقارنة بين الفيلمين لن تكون منصفة على الإطلاق لفيلم “للرجال فقط” والذي رغم جرأة فكرته إلا أن تعامله معها كان تقليدياً للغاية، ففي النهاية احتفى صناع الفيلم وجمهوره بفوز بطلاته بأزواج تصادف أن يكونوا مهندسين في نفس الموقع ونسى الجميع أن هذه النساء اضطرت لانتحال شخصية رجال حتى تفوز بأبسط حق لها ألا وهو اختيار الوظيفة التي تريد أن تعمل بها. على النقيض من “للرجال فقط”، احتفى رأفت الميهي و فيلمه “للسادة الرجال” بحق النساء في مواجهة الأبوية و الرجوليات المعبرة عنها، مع الأخذ في الاعتبار أن الاحتفاء هنا ليس احتفالياً بقدر ما هو احتفاء يكاد يكون مأساوي حد العبث لأنه قائم على إدراك صانع الفيلم أنه لم يعد أمام النساء سوى أن تصبح رجالاً رغماً عن إرادتهن وإختياراتهن حتى يمكنهن مقاومة أنظمة الرجوليات الاجتماعية من داخلها. مرة أخرى أكرر أن “السادة الرجال” لم يقدم نفسه باعتباره فيلما عن العبور/التحول الجنسي والذي يعتمد في الأساس على اختيار الأشخاص و هوياتهم/ن الجندرية التي يشعرون/ن أنها تعبر عنهم/ن وإنما هو فيلم عن مجتمعات غارقة حتى النخاع في أبويتها الظالمة للنساء بشكل لا يترك لهؤلاء النساء أي فرصة سوى التسلح بالرجولة لعلها تنقذها من الظلم.

* تم تغيير الأسماء