بقلم: سالي طريش*
ترجمة م. ل.

العمل الفني : “بويات” من ألبوم “وا وا كومبليكس” للفنانة فاطمة القادري و الفنان خالد الغربلي.
تحرير: موسى الشديدي  

 

في تلك اللحظة التي حطت فيها قدماي على أرض الكويت (العاصمة)، شعرت بالألفة؛ كأني ترعرعتُ هنا، بل كان الأمر كذلك. تلك الحرارة اللاذعة، تلك الشمس التي يشوبها الغبار بدلاً من السُّحب. شعرت و كأني عدت بالزمن إلى طفولتي؛ شعور بالانتماء سرى في عروقي بشكلٍ مفاجئ؛ لقد عدت إلى الخليج، أنا أخيراً في مدينة الكويت.

هذه المرة جئت في مهمة عمل، و لكني سأُجحف في حق المدينة لو قلت بأنها أدهشتني فقط، فقد أدهشتني أكثر مما كنت أتوقع. لقد قادني الفضول إلى عالم خفي يبرق تحت الظلال، وبريق الكويت ذاك بدأ يسطُع في عيني.

أما الذي قادني إلى هذا العالم المدهش فقد كان أحد أصدقائي، تامر*؛ الطويل، الوسيم، والملامح الجذابة. لا أبالغ عندما أقول بأن الناس كانوا يُمعنون النظر إليه. كان هو من يأخذني في أغلب المغامرات التي نخوضها سوية.

 

النزول إلى حفرة الأرنب

في الليلة الثالثة منذ مجيئي، وصلتني دعوة لحضور ما يُعرف بـ”حفلة عيد ميلاد”؛ بلغني أنه سيأخذني إلى هناك سائق في تمام الساعة التاسعة مساءا. وكان على موعدِه، قطعنا الشوارع حتى وصلنا إلى منزل صغير في أحد أحياء الطبقة المتوسطة. نزلت من السيارة، سلمت على السائق، رحل وتركني واقفة على رصيف هذا البيت الغريب وإذا بالباب يفتحه صديقي الوسيم  قائلا “تعالي الحفلة رح تبلش بعد شوي!”. كان هذه المرة أكثر استرخائاً مما سبق؛ بل كان على طبيعته. قبّلته على خده ومضيت قدُما نحو الباب المفتوح، وجدتها شقة صغيرة، مريحة، ومؤثثة بعناية. بغض النظر عن تلك المقاعد غير المتناسقة، كانت الشقة ذات تصميم بسيط.

“أعرّفك على كامِل*، اليوم عيد ميلاده”. عرّفني صديقي على شاب خليجي كما يبدو من مظهره، تبادلنا التحية وشكرته على دعوته لي. خلال تلك الأثناء بدأت الصالة تمتلئ بالمدعوّين، وبدأت كؤوس الخمر تصَب، ومضت الليلة. كانت ليلة سريالة، ليست كليالي الكويت التي عرفتها.

 

كشف المستور

في الأيام التوالي، أصبحت علاقتي بصديقي تامر أقوى، وصرنا نقضي المزيد والمزيد من الوقت سوية. إلى أن جاء اليوم واستشرته حول كتابة هذه المقالة، فإذا به يفصح لي عن حقيقة ميوله الجنسية المثلية، وإذا بي أفعل الأمر ذاته. صمتنا قليلاً نستشعر تلك اللحظة المليئة بالود والتقبل، نتبادل الابتسامات البلهاء بين الوهلة والأخرى، لقد أصبحنا عائلة.

أخبرني بأنه “طبعاً مشتاق للوطن، لكن عندي حرية لأكون على حقيقتي هنا أكثر”. لقد عاش هنا مع شريكِه الكويتي سنتين، تشاركا المنزل والحياة، والسعادة. كان يشعر بأن هذا سيكون مستحيلاً في وطنه، الأردن. “دائماً هناك من يراقبك، ليخبّر العائلة”.

“الموضوع مش موضوع خوف”، هكذا رد عندما سألته عن الإفصاح عن الميول الجنسية المثلية في عمّان. “الموضوع ببساطه أنه مالو داعي، أنا مو هيك. ما بحس أنه بدي أحكي لكل حدا بشوفه بالشارع عن هويتي المثلية هنا. لكني حاس أن الحفاظ على الخصوصية أصعب في الوطن”.

 

مرحباً بكم في العالم الآخر

أكمل حديثه قائلاً: “سهل إنك ما تلفتي النظر هنا، الرجال أقرب إلى بعض جسدياً”، و كان ذلك ملحوظاً بالفعل. فمن الشائع أن ترى الرجال يمسكون أيدي بعضهم البعض، بل و يظهرون الحميمية بينهم، حتى في الأماكن العامة كالمجمعات التجارية. “و لديهم ’الديوانية’ (و هي صالة منفصلة عن باقي البيت عادةً ما تكون مخصصة كمجلس للضيافة أو الرفاهية) حيث يقضي الرجال أوقاتهم معاً طوال الليل. من السهل أن تقول أنك ذاهب إلى ديوانية صديقي فلان، فهذا ليس أمراً مريبا على الإطلاق”.

الأمر ممكن حتى بين النساء، فقد جرت العادة بأن تكون روابط الصداقة بين الفتيات قوية؛ فِكرة أن “الصديقة المفضلة” هي كتوأم الروح فِكرة مترسخة جداً في جذور هذا المجتمع، لدرجة أنه يسهل على العلاقات العاطفية السريّة أن تمُر تحت هذا الغطاء أكثر من تلك التي في بلاد الشام كالأردن. لا أحد يسألك، ولا أحد تثيره الشكوك كما يبدو. و إذا حصل و أن شك أحدٌ منهم، فلن يتكلموا.

 

النصف الفارغ من الكأس

قد يتبادر للقارئ بأن الحياة سهلة خلف الستار، إلا أن هناك وجه آخر لها. “المجتمع يتوقع من الرجال والنساء أن يتزوجوا، هذا لا جدال فيه”، يقول صديقي. هذه إحدى التحديات التي يواجهها المثليين/ات في الكويت؛ مما يؤدي إلى المضيّ بحياة مزدوجة.

صديق آخر لي، سامي*، له وجهة نظر أخرى: “في آخر المطاف نحن أجانب هنا، لذلك لا يكترث أبناء البلد بما نقوم به نحن”، الأمر نفسه في الأردن، فالهوية الجنسية للمقيمين ليست مدعاة للاكتراث بالنسبة للمواطنين، القاعدة نفسها في الكويت. “في النهاية من المتوقع مننا أن نرحل أو نعود من حيث أتينا، نحن لسنا جزء من نسيجهم الاجتماعي، لذلك يعتقدون بأنه لن يؤثر أحدنا على الآخر”.

“اشتاق لاخواتي كل يوم”، يقول تامر* بكل أسى، “لكني لا أستطيع أن أتصرف على حقيقتي في وطني، و لا أريد أن أجرح أحدا”.

“لقد كبرت هنا”، يقول سامي*، “لكن رغم ذلك لا أشعر بالانتماء. الانتماء هناك في لندن حيث يعيش شريكي”. سامي العازف الموهوب، يتوق إلى اليوم الذي يغادر فيه العالم العربي. “لا أشعر بالتقدير أو التقبل لذلك أريد العودة إلى لندن”.

غادرت الكويت، و عدت إلى وطني، حيث لا أزال “داخل الخزانة” هناك. تلك الرحلة تركت في داخلي شيئا من المرارة. لا أعني بذلك أن المدينة كانت سيئة، بالعكس، كانت مدهشة! إنما كانت ملاذاً للكثير ممن أعرفهم وأحبهم؛ يبدو أننا مسيّرون نحو قليل من الحريات و الكثير من التضحيات التي يجب أن نستعد لها.

 

* تم تبديل أسماء الأشخاص