بقلم مهى محمد
تدقيق لغوي: إبراهيم محمد
العمل الفني: آية أبو غزالة
هذا المقال بالشراكة مع موقع ترانسات

 

مع أول جرعة إستروجين تسري في جسدي، شعرت أن العالم بأسره يتغير من حولي، ألوان جديدة تدخل إليه، أصوات ملائكية لم أعهدها من قبل، روائح مثيرة للأحلام والشجن، مخلوقات نورانية تلتف من حولي، تبتسم إليّ في ود ومحبة. وفراشات، الكثير الكثير من الفراشات، بألوان لا توجد حتى في قوس قزح. بالطبع.. لم يحدث أي من هذا. هذا فقط ما تخيلته في طريقي إلى الصيدلية للحصول على أول جرعة من علاجي الهرموني. لكن ما شعرت به بالفعل، كان وخز الإبرة، ونظرات الصيدلي المستنكرة المتأففة من ذلك “الذكر” الذي يتعاطى هرمون الأنوثة.

لأنني امرأة عابرة جندريًا، ولأن العالم مكان قاس، لا يقبل عادة بوجود أمثالي، عشت أغلب حياتي في دور الذكر، الجنس الذي حُدد لي ساعة أن جئت إلى الحياة، بسبب أعضائي الجنسية وتكويني البيولوجي المفترضين للذكور. وبالرغم من أنني كنت أعرف بداخلي طوال الوقت أنني امرأة، إلا أنني مع ذلك صدقت الأوراق الرسمية، “هل سوف أعرف أكثر من الجميع؟!”، أوراقي الرسمية تقول بأنني ذكر، المجتمع، عائلتي، أصدقائي، الغرباء في الشارع، العالم بأسره يقول بأنني ذكر، إذن فأنا ذكر، وما أشعر به بداخلي منذ أن وعيت على الحياة هو بالتأكيد مجرد وهم. وبناءً على ذلك، حاولت التماهي بكل الأشكال الممكنة مع الدور الموكل إليّ من قبل المجتمع، مارست الذكورة بكل استحقاقاتها، وحصلت معها على ما يمنحها المجتمع من امتيازات، دون أن أدرك حجم هذه الاستحقاقات، أو فداحة تلك الامتيازات.

بمجرد تقبلي لحقيقة كوني امرأة، وإعلاني عن ذلك دون خجل، وجدت نفسي فجأة أنتقل من إحدى القمم المجتمعية إلى إحدى أكثر الفئات اضطهادًا، من ذكر “في نظر الجميع” يعتلي قمة هرم الامتيازات الجندرية والعرقية والعقائدية والمجتمعية والوظيفية، إلى أنثى لا تعترف بها دولة ولا مجتمع. فقدت حقي في الاجتماع، حقي في المساواة، حقي الأسري، حقي الأمومي، حقي في العمل، حقي في الحب والاحترام، حقي في أن أسير في الشوارع دون أن يتعرض لي المارة بنظراتهم، أو ألسنتهم، أو أياديهم. صرت في نظر الجميع جريمة حية تسير على قدمين، مستباحة، ومعرضة للانتهاك دون أدنى رادع. صار عليّ أن أبدو أقل حجمًا، أخفض صوتًا، وأكثر خنوعًا. أصبحت مطالبة بالإطراق أثناء سيري خجلًا من أنوثتي، والتي ما أن بدأت تظهر معالمها على جسدي بفعل العلاج الهرموني -تلك المعالم التي طالما حلمت بها طوال حياتي- حتى اكتشفت أن عليّ إخفاءها، كي لا تستفز الذكور، فأصبح عرضة للانتهاك. أدركت وقتها شعور كل أولئك الإناث المضطرات إلى الاختباء خلف حجاب الفضيلة المجتمعية المفترضة الزائفة، كي لا تتدمر البقية الباقية من حياتهن المقموعة. البعض يضطررن إلى الاختباء وراء حجاب، والبعض الآخر يضطررن للاختباء في صورة رجل.

“بقى يبقى راجل ملو هدومه فيقوم يقلب مَرَة ويروح ينام في حضن راجل تاني.. ده يبقى يستحق الدبح”

“بقى يبقى راجل ملو هدومه فيقوم يقلب مَرَة ويروح ينام في حضن راجل تاني.. ده يبقى يستحق الدبح” لن أنسى ما حييت تلك العبارة المرعبة التي سمعتها ذات مرة من أحد الذكور أثناء محاولة شرحي له عملية العبور الجندري “بالطبع دون أن أخبره بأنني المعنية”. يعتبر الذكور عادة وجود أمثالي في الحياة إهانة لهم ولذكورتهم وللذكورة نفسها بشكل عام. كيف نتنازل عن هذا الامتياز؟! كيف نختار بأنفسنا الانتقال من خانة القوامين إلى خانة الإماء؟!، من خانة المالك إلى خانة الملكية الخاصة؟!، من خانة الفاعل إلى خانة المفعول به؟! كيف جرؤنا على استبدال الضلع السوي بآخر أعوج؟!، والعقل الكامل بنصف عقل؟! ” أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير”. ولذلك سوف تجدهم يقبلون العابرين الذكور إلى حد كبير، فهم في نظرهم قد ترقوا، ارتفعوا إلى أعلى درجات، بينما نحن العابرات، فقد أهدرنا قيمة “الرجولة”، ولذلك فنحن نستحق الذبح.

بعد نجاحي رغم كل هذا في فرض أنوثتي ودخولي إلى عالم النساء، وجدت أننا نحن النساء “عابرات وغير عابرات” مضطرات طوال الوقت لإثبات قدراتنا، وكأننا في اختبار مستمر، مضطرات لإثبات قدراتنا على التفكير، على العمل، على القيادة، على الفعل نفسه بشكل عام، فنحن من المفترض لنا دائمًا دور المفعول به فقط. نحن حتى مطالبات بإثبات أنوثتنا ذاتها بما يرضي الذكور، لا أذكر مثلًا أنني اضطررت في حياتي السابقة لإزالة شعر جسدي، لا أذكر أنني اضطررت إلى إخفاء عيوب بشرتي، أو تنعيم صوتي. نحن نجد أنفسنا مدفوعات دفعًا إلى الالتزام بمعايير وضعت بالأساس لإرضاء رغبات الذكور، وليست لإرضاء مشاعرنا نحن، والغريب أن حتى هذه المعايير نحن مطالبات بإبرازها فقط للرجال في مخادعهم، أما لو أنهم رأوها في السياق العام، أطلقوا علينا ألسنتهم وأياديهم ونظراتهم السامة وأحكامهم المسبقة الواصمة. المرأة في نظر أغلب المجتمع ما هي إلا أداة لإمتاع الرجل وخدمته، هذا ما وجدت الحال عليه عند عبوري للجانب الآخر من عالم الجندر.

والآن، وبالرغم من الثمن الباهظ الذي أدفعه مقابلًا لأنوثتي، إلا أنني لم أندم عليه ولو لحظة واحدة، لم أضبط نفسي إطلاقًا أكرهها، أو أوقع باللوم عليها، بل بالعكس، لقد صارت مصدر فخري، وعنوانًا لرحلتي الصعبة في الحياة. أنا الآن أحارب على الجانب الصحيح، جانبي الذي طالما أقصيت عنه. وإن كان المجتمع يرى في “الرجولة” قيمة عليا، فأنا على العكس تمامًا، أرى ذلك في الأنوثة، فأنا لم أعهد نفسي من قبل بهذه القوة وهذه الشجاعة وهذا الإصرار على الحياة، بالرغم من كل تلك الامتيازات الذكورية التي كانت لدي، ربما لأنها الحقيقة، ولكن هذا ليس هو السبب الوحيد، إنها أيضًا قوة تلك الروح التي أطلقت صراحها.. روح الأنثى.. روحي.