Article in English

بقلم أحمد محمد
تصوير إيكاترينا شوفتشينسكايا
ترجمة مايا أنور
تدقيق موسى الشديدي

 

بعد عروض لا حصر لها في ساعات الليل المتأخرة وحلبات الرقص المزدحمة، تُخفف دي جي شمسة من إيقاعها لتجري معنا مقابلة ودية. تتحدث فيها عن طموحاتها، وكويريتها، وروائع موسيقى الرقص الإلكترونية.

دي جي شمسة هو مشروع موسيقي للأردنية فرح قلبي طار، مشروع يخترق المشهد الموسيقي الإلكتروني في برلين، ألمانيا. تجولت فرح منذ 2015 في مدن أوروبا الرئيسية، تجوب الشوارع  وتسلب الأرواح لتأخذها إلى غياهب الموسيقى الإلكترونية في كل حفلة ليلية صاخبة. تخلط في موسيقاها الآلات الشرق أوسطية الفريدة “الطبلة والدف” بألحان موسيقى الـ “هاوس” العالمية، حاملةً هوية دي جي شمسة الشرق أوسطية خلال إيقاعاتها، طبولها وموسيقاها المستقبلية1.

تقول فرح: “وجدت نفسي في الموسيقى الإلكترونية، أعتقد أن حياتي كلها كانت تُبنى حتى هذه النقطة، قد لا أعرف كيف حصل ذلك تحديداً، إلا أنني لم أشعر أبداً بالحياة كما أشعر بها الآن”. تشارك فرح افتتانها بالقدرة المستقبلية للموسيقى الغربية، الإلكترونية، والهاوس والتكنو، وتستخدم إبداعها الفردي وموهبتها لتطويع موسيقى الهاوس لتلائم روحها.

تحاول فرح تجنب الأصوات الشائعة في معظم الموسيقى الإلكترونية الشرقية مثل العود أثناء عملها على أول مشروع إنتاج كامل لها، والذي تتطلع لإصداره قبل نهاية العام الجاري. وتأمل أن تخلق موسيقاها شعوراً بالحنين إلى الثقافة العربية مع إبقائها جريئة، معتمدة على إيقاعات مستوحاة من موسيقى الهاوس الغربية القديمة، ثم تضيف إليها طابعاً رمزياً ومستقبلياً. تستعمل فرح مجموعة متنوعة من القطع الموسيقية، من إيقاعات الجاز لإيقاع الديسكو والطبول، وترفقها مع الأكابيلا الروحانية (نوع من الفن الموسيقي يعتمد على الصوت البشري بدلاً من الآلات الموسيقية) لتثير حنيناً يحفز المستمعين على الرقص. مشروعها الحالي عبارة عن تشغيل مستمر لأربع مقطوعات متأثرة بشدة بموسيقى البوب العربية من التسعينيات والتي نشأ الكثير منا في الشرق الأوسط على سماعها، وتشغلها بأسلوبها مع الحفاظ على صوت الهاوس الأصلي.

تشرح فرح عمليتها الإبداعية بالبدء بوصف ما تعتقد أنه أفضل شعور على الإطلاق: “أن أصبح في النهاية كياناً واحداً مع الآلات”. تتجاهل بلباقة أي طاقة سلبية، أو شكوك، أو قلق أثناء أداء عروضها. منذ اللحظة التي تتواصل فيها مع لوحة التشغيل، تشعر بالأدرينالين ينبض من خلال أطراف أصابعها، وتشعر بإيقاع متشابك يجعلها منتشية بشكل طبيعي. ويعزز الجمهور الراقص هذا الشعور لديها.

” في هذه اللحظة، يبدأ كل شيء بالتدفق، كما لو أنه سحر”.

على الرغم من أن رحلة حياتها كانت قاسية، تشعر فرح بالتقدير لكل منعطف ومعناة ساعدوا في تعليمها. تعتبر فرح أن أسوأ ما في الأمر لديها هو حقيقة عدم القدرة على مشاركة المنصة مع المزيد من الفتيات اللواتي يعملن دي جي. تدعوا أخواتها الموسيقيات للظهور والمشاركة، وتدعم صديقتها المقربة ونظيرتها الموسيقية دي جي سما من فلسطين.

مع ثلاث سنوات فقط من العمل كـ دي جي، لا تزال فرح تشعر بأن العالم أمامها لتكتشفه، ومع ذلك، تشعر بالامتنان للفرص التي أتيحت لها حتى الآن. بإلقاء نظرة إلى الوراء حتى هذا العام، تكشف فرح عن أول محطة بارزة في حياتها المهنية، والتي جاءت كنتيجة حقيقية للسعي وراء الشغف. “دُعيت للتأدية في أحد ملاهي برلين، وكانت تلك أكبر حفلة في حياتي كلها، أمام حوالي 1000 شخص، يشهدون موسيقاي لأول مرة على الإطلاق”. انتهزت فرح الفرصة بافتتاح العرض بتشغيل ثلاث مقطوعات لم تصدر بعد، لم يكن لديها فكرة عن ردود الفعل – كانت حينها مجازِفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

“حينها حدث الأمر. كنت أقف هناك يتملكني شعور بالرهبة بينما كانت كاميرات الهواتف والأيدي تلوح في كل أنحاء الصالة. تدافع الجمهور ليملؤوا غرفة التشغيل الفارغة لتحيتي والثناء على موسيقاي”. شبّهت تلك اللحظة بقصة من القصص الخيالية، معتبرة نفسها مرة أخرى تلك الفتاة الصغيرة التي لطالما اعتقدت أنه من المستحيل أن تعيش لحظة بهذه الروعة.

تصوير إيكاترينا شوفتشينسكايا

عند سؤالها عن مصدر إلهامها، صمتت فرح لثانية واحدة للتفكير، ثم لمعت عيناها وأجابت: “الموسيقى من هذا النوع لا جندر لها، ولا عرق، ولا عمر. لا توجد نية خفية، كل ما في الأمر أن لدى الموسيقى القدرة على تحرير الناس، فهي تعطي شعوراً بالقوة يشبه الشعور بالحرية لأقصى درجة. كان شيئاً تتوق إليه فتاة من الأردن”. أكملت حديثها بأن ظاهرة الرقص على الموسيقى الإلكترونية نشأت لتسليط الضوء على أجزاء من الوعي كانت في السابق حبيسة، وأن حلبات الرقص على أنغام الموسيقى الخارجة عن المألوف شكلت ملاذاً للكثيرين. وبالتالي، ليس أمراً مفاجئاً أن موسيقى الهاوس الإلكترونية كانت وسيلة رئيسية لتمثيل المهمشين، مثل الأقليات الكويرية من الأمريكيين ذوي الأصل الأفريقي في ثمانينات القرن الماضي، حيث منحتهم ملاذاً بعيداً عن اعتبارهم خارجين على القانون الثقافي والمجتمعي.

إن الموسيقى الإلكترونية هي صوت المستقبل، وستبقى كذلك، كما أنها تخلق مساحات آمنة لأنها لن تتوقف عن التطور. وهي تتيح للناس بيئة يمكنهم من خلالها خلق حالة من يقين، حتى لو كانت حالة مؤقتة، تحررهم مما تعرضوا له من بنى إجتماعية على مر التاريخ، خاصة فيما يتعلق بالجندر والكويرية. “أعتقد أنه لا يزال من الصعب للغاية بالنسبة لغالبية الأفراد العرب أن يتصوروا فتاة كـ دي جي، تملؤ موسيقاها الإلكترونية غرفة تهتز وتُسعد الجمهور حتى ساعات الصباح الأولى”. تتوقع فرح أن التحدي الأكبر هو الرفض الاجتماعي والثقافي العام لأي طريقة بديلة للتفكير أو الحياة، والتي قد تُعتبر مخالفة للقواعد والتقاليد المجتمعية في الأردن.

تصف فرح أزمة هويتها المستمرة وما يعنيه التخلص من قيود الإبداع، وتقارنها باضطراب في الشخصية يفرضه المجتمع عليها. تقول فرح: “أن تكون كويرياً هو حالة من الوعي أكثر من كونها تفضيلاً جنسياً. في داخلي، كنت هذه الطفلة الجامحة والكويرية والمتحررة والمبدعة، لكن ما أظهره للناس كان كل شيء غير ذلك”. وتوضح بأن عدم وجود أي إقرار رسمي أو غير رسمي وسوء الفهم المستمر للمواهب يؤثر بشكل كبير على قدرة وإرادة الكويريين الصغار الموهوبين على الاستمرار. ومع ذلك، في حالتها، رأت في ذلك فرصة للارتقاء وتمهيد الطريق لسد فجوة كبيرة في الصناعة الموسيقية الإبداعية في عمّان، والتي تفتقر إلى التنوع الضروري.

بالإشارة لكونها واحدة من مشغلات الدي جي القليلات في الأردن، قالت فرح: “إنها مفارقة سخيفة، لكنني أعتقد بأننا يجب أن نبدأ من مكان ما”. كانت قلة ثقتها بنفسها تثبط من عزمها أحياناً، وجعلتها تشعر بعدم أهميتها، كعدم وجود من يرشدها أو يقوم بتوجيهها. لكنها في النهاية تخطت تلك الحواجز بدعم من مجتمع من الأشخاص الذين لديهم نفس فكرها والذين يُقدّرون الموسيقى واحترافها وحبها.

ختاماً، نود أن ننهي حديثنا ببعض الكلمات التي كانت فرح تود أن تسمعها عندما كانت تبدأ في مشوارها:

“أول وأهم شيء، لا تخف من أن تحب نفسك. أصعب ما في الأمر هو أن تجد نفسك وأن تكون صادقا معها. هذا هو المغزى الحقيقي من اللعبة التي اسمها الحياة، في حين أن كل شيء آخر هو بناء اجتماعي”2.