بقلم موسى صالح
العمل الفني
لينا قسيسية


تمردت أم كلثوم (ثومة) على تقاليد وأعراف مجتمعها الذكورية منذ نشأتها من دون أن تعي ذلك، حيث لعبت نشأتها دوراً كبيراً في تكوين نظرتها المختلفة لجوانب الحياة على خلاف عما يدور حولها من أنماط متعددة.

 هذا المقال هو مراجعة سريعة للنسخة الثانية والمحدثة  من كتاب “جنسانية أم كلثوم“، الصادر عام 2019، تحاول أن تستبق الأحكام عليه وتوضّح محتواه. الكتاب من تأليف الكاتب العراقي موسى الشديدي، والذي بسبب تنظيره حول الجنسانية والنوع الاجتماعي (الجندر)، أرغمته الميليشيات الدينية المتشددة على ترك العراق عام 2012. كان قد صدر له الجنسانية اللامعيارية في السينما العربية عام 2018 . فما الذي يضيفه هذا الكتاب على كل ما كتب وقيل عن أم كلثوم من نشأتها إلى يوم وفاتها وما بعد ذلك؟ ولماذا نكتب عن جنسانية الست بعد أكثر من 40 عاما على وفاتها؟

يتألف الكتاب من تسعة فصول تتناول مراحل مهمة في تاريخ أم كلثوم استطاع الكاتب من خلالها ربط أهم ما جاء من أقاويل وكتابات عن جنسانيتها. بلغة بسيطة وسهلة، بعيداً عن أي بلاغيات يسرد الكتاب، الفريد في طرحه وفكرته، مراحل حياة أم كلثوم وأهم المحطات التي مرّت بها مما جعل منها رمزاً. هذا ويدعم الكاتب حجته وتساؤلاته بالكثير من المراجع والمصادر الموثّقة. 

يحاول الكاتب طرح احتمال أو فرضية حول تلك “الست” التي لم تسلم في حياتها ولا بعد رحيلها وصولاً إلى يومنا هذا من الإسقاطات والتأويلات والشبهات حول حياتها العاطفية والجنسية. من هذا المنطلق ومن باب الانتصار لتلك المطربة التي “لم يحقق أحد مثلها شهرة في منطقتنا أبداً”، أراد الشديدي طرح كتابه تحت ذلك العنوان. كتاب يحتوي على مجموعة ما توفّر من مقالات ومقابلات وشهادات تخص جنسانية أم كلثوم وحياتها العاطفية و”المطالبات” المجتمعية بضرورة تنميط سلوكها بما فيه الظهور على الجمهور، والشكل، والوزن، وإدارة الأعمال، والزواج.

لم تكن أم كلثوم يوماً فتاة نمطية، بدايةً من لبسها “العقال” كي يُسمح لها بالغناء في الأرياف حيث “صوت المرأة عورة”، ونشأتها في مجالس الرجال تحادثهم وتنشد لمسامعهم المدائح والقصائد الدينية. لم تختفي تلك القيود والمحظورات، التي فُرضت عليها في نشأتها، بعد انتقالها إلى القاهرة بل تبدلت لتنتقل إلى مستوى أخر تمثل بالمنافسة بينها وبين سلطانة الطرب منيرة المهدية وما حاولت إثارته من نعرات وشائعات حول أم كلثوم وسلوكها الاجتماعي وجنسانيتها، ولكن على ما بدا أن ذلك لم ينجح في ردع أم كلثوم عن نجاحها في شيء.

يضيء الكتاب أيضاً على واقعة حصول أم كلثوم على نيشان الكمال من الملك فاروق وما أثاره ذلك من بلبلة وسط نساء القصر والعائلة المالكة ورفض زواج أم كلثوم من صبري باشا، أخ الملكة نازلي وخال الملك فاروق. المثير في الأمر هو إصرار النظام الأبوي للسيطرة على جسدها وذلك عبر تدخّل المؤسسة الطبية هذه المرة، المؤسسة التي أعلنت عن ضرورة زواجها كي “ترضي بشريتها” بعد مرضها. هذه الإشارة هنا إلى الأطباء وربطهم لموضوع الزواج ووجود رجل في حياة أم كلثوم بحياتها النفسية والصحية ليس بغريب، فتلك المؤسسة ما هي إلّا أداة من أدوات السلطة للسيطرة على أجساد الناس وجنسانيتهن/م عبر حجج ووسائل مبررة من قِبل السلطة نفسها بحجة رفع المرض والآذى عنهم/ن بحسب الفيلسوف والمفكر الفرنسي فوكو.

يثير المضمون علاقة أخرى مهمة جداً تبرز تحكّم النظام الأبوي الاستعماري بوجود أم كلثوم كمطربة أساسية في مصر والمنطقة ككل، حيث أصبحت ملكاً لجمهورها. معادلة من نوع آخر، بين السعي للشهرة وتملك خشبات المسارح وأذان المستمعين مساء كل خميس، أصبحت أم كلثوم ملكهم، “كل الجمهور كان كوالدها، بحس التملك نفسه”، لتصبح فيما بعد رمزهم المقدس الذي لا يقبل أي انتقاد أو محاولة لفهم وتحليل تاريخ تلك السيدة.

لعل ما أراده الكاتب هو طرح هذه الفكرة حول شخصية “مقدّسة” كأم كلثوم محاولاً كسر تلك القدسية التي ابتدعها جمهورها ومنع عنها بذلك الحق في أن تكون إنسانة تتمتع بجميع حقوقها المدنية والجنسية. لا تبدو غاية الكاتب إثارة النقاشات الهزلية أو إدارة معارك على وسائل التواصل الاجتماعي، بل باعتقادي فإنه يريد لنا أن نرى أم كلثوم من زاوية أخرى، حيث يحق لها أن تمارس طقوسها وأفكارها بحرّية ويحق لنا نحن من نعيش على تموجات صوتها أن نسأل عن حياتها لا من باب التحكّم بها بل لأننا نأمن بأنها مهما بلغت من عظمة ومكانة لدى الجمهور، التملّكي الذي يريدها تمثال يغني فقط، يبقى لديها الحق في أن تعيش أفكارها وجنسانيتها بحرية مطلقة. الجنسانية التي لا تختصر بالميول الجنسية وحسب كما يعتقد الكثيرون، فالكتاب لا يبحث عن كون أم كلثوم مثلية أم لا فحسب، بل يحاول أن يخترق تلك الهالة من الاستفهامات البوهيمية حول الست، تلك الإشارات أو الإدعاءات العلنية حول كل ما يتعلق بها من وقفتها على المسرح وصوتها إلى تتبع تفاصيل حياتها الخاصة.