بقلم: ملاك الغريب*
تحرير: مهى محمد
تدقيق يزن مخامرة

العمل الفني  ت. ع.


كنت أسير بين جنبات ممر البورصة في منطقة وسط البلد في القاهرة، عندما رأيت رجلاً يصيح بأعلى صوته ملوحاً بذراعيه: “أبضري ياللي البضر مش ليكي”، ثم قام برقع زغرودة عالية في الهواء جعلتني أنظر إليه باندهاش فاتحاً فمي.

كان ذلك في الوقت الذي تلى الثورة المصرية عام 2011، لم أكن محتكاً وقتها بأيٍ من أفراد مجتمع الميم في مصر، أو بثقافة المجتمع المثلي، أو حتى بالثقافة الكويرية المصرية. كنت أرى المشهد كأنه منسوخاً من فيلم “خالتي فرنسا” لعبلة كامل أو من شيء مماثل. لم أكن أدرك في ذلك الوقت ما هو السياق الذي يجعل رجلاً يزغرد أثناء قضاء وقته على إحدى مقاهي وسط البلد، إلا أن هذا المشهد لم يعد الآن غريباً بالنسبة إليّ، قد صار مألوفاً تماماً، بل ربما أكون أنا الآن الكديانة البطلة صاحبة الزغرودة في بعض المواقف.

أهلاً بكم في عالم البضر، هذا العالم الخاص جداً بالمجتمع الكويري في مصر، وما يضم من حكايات لن تشاهدونها على الشاشة الفضية ولا الذهبية ولا حتى البرونزية. “البضر” هو اسم اللغة الدارجة Theme language  بين أفراد المجتمع الكويري في مصر والتي تطورت في القرن العشرين لتحل مصطلحاتها محل الكلمات التي يحتاجونها للتواصل بشكل يومي من دون أن يفهم معنى هذا الكلام أي شخص من خارج هذا المجتمع، كونها تضم العديد من المصطلحات التي تحمل معانٍ خاصة مثل حملة أمنية أو مخبر تابع للشرطة، حرامي، ضرب أو علقة، تفضيلات الادوار الجنسية مثل موجب وسالب، قضيب، ذو قضيب صغير، إلخ…

وعن أسباب تطور هذه اللغة على الرغم من أن المثلية الجنسية ليست مجرّمة بشكل رسمي في مصر، فإن المجتمع الكويري منذ الحقبة الناصرية وهو يعاني من اضطهاد أمني ومجتمعي بسبب الحملات الأمنية التي يشنها الأمن من وقت لآخر منذ إصدار قانون الفجور للعام 1961، والذي يحاكم على أساسه معظم الرجال المثليين والنساء العابرات الذين يتم القبض عليهم في مختلف الحملات الأمنية. وطبعاً فإن هذا الاضطهاد المجتمعي من المجتمع، الذي يعطي لنفسه الحق بالاعتداء بالضرب والسب، إلخ.. على رجل مثلي إذا قام بالإفصاح عن ميوله في أحد الأماكن العامة.

تطورت هذه اللغة مع الوقت وربما أخذت عشرات الأعوام حتى تصل إلى الصورة التي عليها اليوم. العديد من الروايات تقول أن لغة البضر استمدت معظم مصطلحاتها من اللغة التي كانت متداولة بين العاملات بالجنس والعوالم في بدايات القرن الماضي، وهذا صحيح. فإذا شاهدنا العديد من الأفلام المصرية القديمة التي تدور أحداثها داخل هذا المجتمع، فسنجد العديد من المصطلحات المتشابهة مع اختلاف المدلول… ولكن أيضا لا نستطيع تجاهل أن هناك العديد من المصطلحات التي تطورت مع السياق نفسه داخل المجتمع الكويري في مصر.

لم ينتج عن رحلة تطور لغة البضر كتاباً مقدساً خاصاً بالمجتمع الكويري، فقد تم توجيه أصابع الاتهام إلى اللغة ومستخدميها مرات عديدة وأحيانا كثيرة اعتبر استخدامها إشكالياً.

في بداية انخراطي في المجتمع الكويري، كانت هناك تهمة جاهزة توجه لمن يستخدمون تلك اللغة على أنهم “بيئة”، بمعنى أنهم ينتمون إلى مستويات منحدرة اجتماعياً. عدا عن النظر لمستخدمي تلك اللغة بنظرة دونية خصوصاً من يستخدمون منهم ضمائر المؤنث في خطاباتهم، أنت رجل والمفروض تتكلم كرجل، وليس بطريقة أنثوية. أو أنا لا أحب “الـمثليين الأنثويين”، عبارات أتذكرها جيداً في محادثات عشوائية مع أشخاص مختلفين من داخل المجتمع الكويري أيضاً.

بصراحة، بعد رحلة ليست بالطويلة ولكنها تعمقت في العديد من طبقات وجوانب المجتمع الكويري في مصر، استطيع القول أن لغة البضر كانت تشكل لي مصفاة وأداة شخصية لاختبار بعض المفاهيم الذكورية عند الأشخاص الذين أقابلهم بداعي المواعدة أو اللقاءات الجنسية. فربما يكون الشخص طبقياً أو ذكورياً ولغة البضر تستطيع كشف ذلك بسهولة، فقد كان الشخص يقوم برد فعل عنيف عند مخاطبته بضمير الأنثى باعتبارها تقليلاً منه شخصياً، أو مثلاً أن يقوم بوصم من يستخدمون تلك اللغة بالـ”بيئة” فيظهر كأنه طبقياً.

“…أحد أهم أسباب انتشار هذا النوع من التنمر في المجتمع الكويري هو شعور أفراد المجتمع بعدم الأمان الشخصي، خصوصاً وأن معظم أفراد المجتمع الكويري أنفسهم يمكن اعتبارهم ضحايا التنمر الواقع عليهم من المجتمع المغاير…”

لغة البضر لم تصبح هنا وسيلة فقط للتخفي من عيون الشرطة فحسب، ولكن أيضاً لمحاربة انتشار أمراض المجتمع الغيري المصري في مجتمع الميم من ذكورية وطبقية وخطابات كراهية متنوعة مبنية على اللون والنوع الاجتماعي والمستوى الاجتماعي، بل وعلى الحي السكني والعلامة التجارية للملابس والجامعة التي تخرجت منها وأحياناً كثيرة المدرسة الثانوية. ولكن توجد أيضا جوانب أخرى تثير حفيظة البعض في لغة البضر خصوصاً عند استخدامها “للتحفيل” عن طريق موشحات بضر متناغمة تطرب لها الآذان، والتي تشبه كثيراً طريقة الردح المصري الشهيرة والتي لطالما استخدمت في المعارك اللفظية بين أفراد مجتمع الميم وبعضهم البعض. هذه الطريقة أصبحت تثير حفيظة الكثيرين مؤخراً من المجتمع الكويري أيضاً لارتباطها بثقافة التنمر المنتشرة في المجتمع المصري في العموم، ولكني أرى هنا أنه يجب التفرقة والتوضيح بين التنمر كثقافة وكجريمة اجتماعية، وبين البضر كلغة دارجة ربما نعتبرها لغة تراثية بشكل أو بآخر.

من وجهة نظري، فالبضر كلغة دارجة هي كأي لغة يتم تطويعها حسب السياق الذي يريد متحدثوها استخدامها به. فاللغة العربية والإنجليزية والفرنسية يتم استخدامهم للتنمر، ولكن لم نجد أحداً يضع هذه اللغات نفسها في موضع الاتهام او يتم اتهام كل متحدثي تلك اللغات بالتنمر لاستخدامهم اياها. كذلك حال اللغات واللهجات الدارجة، فيجب علينا أن نحارب ثقافة التنمر في مجتمعاتنا لما لها من تأثيرات سلبية كبيرة، ولكن يجب علينا أيضاً أن نضع أيدينا على المشكلة الحقيقية.

فالتنمر هو شكل من أشكال العنف والإيذاء. وهو منتشر جداً في المجتمع الكويري المصري ومجتمعات الميم الأخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفي العالم بأسره. في مصر، فإن أكثر أنواع التنمر انتشاراً هو التنمر اللفظي، بالطبع مع وجود جميع الأنواع الأخرى، ويعتمد في الأساس على المباريات الكلامية بين أفراد المجتمع.

تأخذ هذه المباريات في معظم الأحوال صوراً متشابهة للردح المصري والذي يعتبر أيضاً صورة تراثية للمشاجرة بين نساء الأحياء الشعبية في القاهرة والإسكندرية. بل ويتم استخدام العديد من المصطلحات الدارجة في لغة البضر أثناء هذه المشاجرات.

ربما تكون أحد أهم أسباب انتشار هذا النوع من التنمر في المجتمع الكويري هو شعور أفراد المجتمع بعدم الأمان الشخصي، خصوصاً وأن معظم أفراد المجتمع الكويري أنفسهم يمكن اعتبارهم ضحايا التنمر الواقع عليهم من المجتمع المغاير، فيتحولون تلقائياً إلى متنمرين كأثر مباشر للتنمر الذي تعرضوا أو تعرضن له، فيرغب عندها الفرد في تأمين نفسه بأن يظهر في صورة القوي الذي لا يستطيع أحد مبارزته كلامياً أو مواجهته في إحدى هذه المباريات الكلامية.

حل المشكلة يكمن في كسر دائرة التنمر نفسها بين أفراد المجتمع الكويري وليس التوقف عن استخدام لغة البضر كلغة دارجة، عن طريق حملات توعوية كثيرة عن أثار التنمر السلبية على مجتمعاتنا، واعتماد سياسات مضادة للتنمر في المساحات التي يجتمع فيها أفراد مجتمع الميم بمختلف أنواعهم، بالإضافة لتوفير برامج دعم نفسي فعالة لضحايا التنمر. هذا ويمكننا كأفراد في المجتمع الكويري أيضاً أخذ زمام المبادرة كل شخص على حدة بأن نقوم بالتوعية بشكل فردي ضد التنمر ومحاولة خلق المزيد والمزيد من المساحات الآمنة في مجتمعاتنا، بالإضافة لإعادة نشر جميع المقالات التي نشرت سابقاً حول كيفية خلق مثل هذه المبادرات كون عددها كبير ولا يستهان بقوة تأثيرها. أما بالنسبة للغة البضر فيجب أن نقوم باستخدامها بوعي أكبر إذا ما أردنا استخدامها، فهي أيضا سلاح ذو حدين مثل الديناميت الذي تم اختراعه أساساً للمساعدة في صناعات التعدين، إلا أنه تم استخدامه في الحروب بعد ذلك. فلغة البضر كان الهدف من تطورها أساساً خلق مساحات آمنة للمجتمع الكويري خالية من حشرية أو تدخل الغرباء. برجاء عدم إساءة استخدامها والمحافظة عليها من أجل ذلك الهدف.

وأخيراً، أعلم أنك يملؤك الآن الفضول للتعرف على مصطلحات تلك اللغة الدارجة ولكن للأسف وبسبب أن هذه اللغة يتم استخدامها إلى اليوم في العديد من المواقف لحماية أعضاء المجتمع الكويري في مصر فلا يمكنني الإفصاح عن أسرارها من خلال منصة ذات نسب زيارات ومشاهدات عالية كمجلة ماي كالي، ولكن دعونا نتمنى أن نستطيع التخلص من السياسات المعادية للمثلية الجنسية والعبور الجندري من المؤسسات المصرية قريبًا، فنستطيع وقتها خلق حوار مفتوح حول تراث وتاريخ أحد أقدم المجتمعات الكويرية في منطقتنا. وحتى يحدث ذلك، فإن الإفصاح عن مفردات هذه اللغة للعلن سوف يكون في حد ذاته “شيء من البضر”.