بقلم: موسى الشديدي
العمل الفني: سارة راجي
عدد الصوت – اقرأ\ي هيكل العدد هنا


كان الغناء عارا في مصر حتى على الرجال، فنجد والد الفنان زكريا أحمد (1896-1961) وهو من لحن لأم كلثوم فيما بعد، يلومه على اختياره لتلحين الموسيقى قائلا، ربنا يكون في عونك، انت ابن عيلة وعايز تبقى واحد من اللي عايشين على يا ليل يا عين! روح شوفلك شغلانة محترمة يا ابني!” لأنه عمل سيئ السمعة١.

وقد وصف الأديب المويلحي حال المغني في القرن التاسع عشر بأنها ” أقرب إلى التهريج والسوقية من الفن وحلاه، وبأن السواد الأعظم من الأمة يرى صناعة الغناء من سافل الصناعات، وفي ممارستها حطة ونقصا، فصغرت لذلك في نفوس المغنين، وهانت عليهم صنعتهم، ولم يروا فيها سوى أنها أداة للكسب والارتزاق، وكان قد ارتبط في عقول الناس بالانحلال والمجون والعبث٢.

وكان هذا العار مضاعفا على النساء، فنجد عبده الحامولي (1836-1901) أحد ألمع فناني عصر الخديوي إسماعيل عندما تزوج من المطربة الشهيرة (المظ)، حرّم عليها الغناء ومنعها من ممارسة هذا الفن، ودخل أزمة عنيفة مع الخديوي إسماعيل بسبب هذا الموقف، فإذا كان عبده الحامولي الفنان يعتبر عمل المرأة بالفن عارا، فكيف تكون الحال بالنسبة لمن لا يعمل بالفن؟ وفي بيئة كارهة للفن والنساء معا كيف تمكنت امرأة مثل منيرة المهدية من الحصول على لقب “سلطانة الطرب”؟

 

كنت أريد أن أرى نفسي في زي “الأفندية” حتى أطمئن إلى مستقبلي فيما لو أصبحت رجلا


صوت أنثوي ضد الاستعمار
دخلت المهدية القاهرة سنة 1905 وأحب الناس صوتها وذاع صيتها، سرعان ما افتتحت كازينو في الأزبكية اسمه “نزهة النفوس”، الذي اجتمع فيه كبار رجال السياسة والأدباء، في صيف عام 1915 وقفت على المسرح لتكون أول ممثلة عربية. أما في أثناء ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي أصدر القائد العام البريطاني أمرا عسكريا بسجن كل من يذكر اسم زعيم الثورة سعد زغلول ستة أشهر مع الشغل وجلده عشرين جلدة.. وهنا غنت منيرة المهدية المشهورة “ يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح. عليك بنادي في كل نادي. يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح…” وانتشرت الأغنية، وأصبحت على لسان النساء والرجال والباشوات والفلاحين، حتى تحولت إلى أشبه بالنشيد الوطني تحديا لأمر قائد جيوش الاستعمار، وأصبحت المهدية المطربة الأولى دون منازع.

على مسرح الرجال
كنت أريد أن أرى نفسي في زي “الأفندية” حتى أطمئن إلى مستقبلي فيما لو أصبحت رجلا
هكذا علقت منيرة المهدية سلطانة الطرب العربي على صورتها وهي ترتدي طربوش وبدلة رجالية وتمسك بالعصا التي اعتاد الرجال الإمساك بها في زمانها، لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي ارتدت فيها منيرة المهدية زي رجل في الحقيقة، فالمثير للطرفة أن من أطلق عليها لقب أول ممثلة عربية لم تمثل دور سيدة إطلاقا في بدايتها، فقد كانت تلعب دور رجل على المسرح في أول دور لها، حيث تقول نعمات أحمد فؤاد ” كانت تقوم بأدوار الشيخ سلامة وتلبس لباس الرجال بل وتنتضي السيف، ومع هذا شجعها الجمهور وأقبل عليها من حلاوة الصوت٣.

الجنس كموضوع
عام 1975 كتب الفنان والكاتب والمؤرخ المصري عبد الفتاح غبن في مجلة الإذاعة ” كانت في صوت سلطانة الطرب منيرة المهدية ( بحة جنسية ) يطير لها صواب الناس، وكان الطرب في أغلبه تقريبا يعبر عن الجنس بوضوح شديد فنجد أحدى أشهر أغاني منيرة المهدية هي أغنية “بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة” التي لحنها محمد القصبجي والذي لحن لأم كلثوم فيما بعد، تعبر عن الرغبة الجنسية دون خجل وبشكل صريح.

بعد العشا، يحلى الهزار والفرفشة،
يا حلو فاكر وادي القمر، زعلت من غير سبب،
انسى اللي فات وتعالى بات، مستنظراك (منتظراك)  ليلة التلات بعد العشا،
تلقى الحكاية موضبة (مرتبة ومجهزة)، بإيدي قايدة الكهربا،
واقعد معاك على هواك ولا فيش هناك، غيرنا وبلاش كتر الخشا (الخجل)،
أوعى تسهيني بقى، واحنا في عز النغنغة (الدلع)،
وتمد إيد وهزار(المزاح)  يزيد عارفاك أكيد، إيدك تحب الزغزغة .

والتي تمثل دعوة تقدمها لرجل في الذهاب إلى بيتها بعد العشا والتخلي عن الخجل في تلك الليلة وممارسة الغزل دون حدود.


محاولات إسكات فاشلة 
بحسب رجاء النقاش كان مجلس الوزراء ينعقد في عوامتها التي كانت تملكها وتقيم فيها على شاطئ النيل بعض الأحيان، وفي مرة ” قبل أحد الوزراء يدها، بعد أن شاهد أوبريت كليوباترا ومارك أنطونيو واعتبرت المقامات العالية هذا العمل لا يليق من وزير فأخرجته من الوزارة٤. وهو ما يقول بأن السلطة كانت تحاول الحد من نفوذ المهدية وتطرد من يحترمها ويحترم فنها من دوائر صناعة القرار الرجالية.

في حوار مسجل مع أماني ناشد قالت أن زوجها “ كان بيحاول يخليني اعتزل ويقول لي صوت المرأة عورة” مع ذلك استمرت بالغناء، هكذا واجهت المهدية المجتمع الأبوي والاحتلال الإنجليزي والقمع باسم الدين وكسرت القيود الجنسية على جسدها وعلى صوتها. وجود نساء مثل المهدية في تراثنا خلدن أنفسهن بصوتهن ومواقفهن أمر في غاية الأهمية، واجبنا الحديث عنهن دوما، والاحتفاء بما تركنه لنا، وحمايتهن من النسيان.