بقلم موسى صالح
تحرير موسى الشديدي

 

في منطقة جغرافية نعيش فيها كأشخاص يعيشون تجارب جنسية وجندرية مختلفة في صراع يومي مع مجتمع تحكمه تقاليد وقيم إقصائية نابعة من معتقدات دينية وإجتماعية، على رأسها مفهوم العيب. في خضم تلك المعركة وفي محاولة الانتصار لأنفسنا وكياناتنا لا بد من تفكيك كل ما هو موروث عن ذلك المجتمع الأبوي الذي يمنع عنّا حق الحياة، إحدى تلك الموروثات هي التراث الغنائي الذي ساهم في تكوين جانب مهم من أفكارنا عن الحب وارتباطه بأدوارنا الاجتماعية وأجسادنا. من هذا المنطلق يحاول العمل الفني الجديد ضمن مشروع “غني عن التعريف” من إنتاج مؤسسة “القوس”، للتعددية الجنسية والجندرية، “توظيف أغاني تراثيّة شاميّة/ فلسطينيّة بهدف استكشافها كمساحة تعبّر عن تجاربنا ووجودنا”. 

أسلوب تعديل وتغيير كلمات الأغاني بهدف إعطائها معنى ورؤية مختلفة عن معناها الأصلي هو في الحقيقة نوع من الديناميكيات بين الأطراف المختلفة المعنية بالإنتاج الموسيقي والمتأثرة به. ويطلق على هذه العملية مصطلح “موندجرين” (Mondegreen) الذي استخدمته لأول مرة الكاتبة الأميركية “سيلفيا رايت” عام 1954.

 نشأت فكرة العمل بحسب نشطاء “القوس” من العلاقة الوثيقة بينهم كأفراد وجزء من المجتمع الفلسطيني والأغاني التراثية الحاضرة في جميع المناسبات. دفعت الأحداث القمعية التي تعرضت لها المؤسسة في العام الماضي من قِبل الشرطة الفلسطينية ومحاولة الاحتلال الإسرائيلي استغلالها ضمن سياسة “الغسيل الوردي” التي يتبعها إلى طرح مسألة الإنكار المجتمعي لوجود وقضايا الأشخاص الكويرين في المجتمع الفلسطيني، وفتحت الباب أمام نقاش حاد حول الإنتماء والإنكار المجتمعي. لذلك يمثّل “منكم وفيكم” رد واضح لا لبس فيه، “نحن منكم وفيكم وسنبقى كذلك”.

يجمع العمل أربعة أغاني تراثية متداخلة فيما بينها بترتيب موسيقي معين ارتكز على الآلات الموسيقية الشرقية بنسختها الإلكترونية مثل الناي، والعود، والبزق، والإيقاع، بهدف “إنتاج عمل معاصر وشبابي يجدّد اللحن التراثي الكلاسيكي المعهود”، مع الحرص على عدم الانجرار لفخّ الموسيقى الاستهلاكيّة التجاريّة.

 

بيلبقلك شك الألماس

  تم إعادة تركيب كلمات هذه الأغنية التراثية التي تربينا على كلماتها لتصبح غزل أم لولدها “علي”. تتغني أم علي بابنها وشبابه وفساتينه، مغرمة بتمايله في الشارع وطلته التي لا يليق بها إلاّ “شك الألماس”. تحاول هذه التوليفة الجديدة للأغنية نقد طريقة تعامل الأهل مع أولادهم وبناتهم غير المعياريّ الجنسانية بأسلوب يخالف حقيقة الواقع ويرسم فسحة أمل لما نتمناه ونحارب من أجله. الأهل الذين يتمنون لو أنهم حشرة على جدار غرفنا المغلقة، يتلصصون على أفكارنا وتحركاتنا لضمان إتمام عملية تعليب الأفكار التي يحلمون توريثنا إياه بسلام وكمال. لعل ما نحلم به في الخفاء خلف حيطان من الخوف وعدم تقبّل لما هو غير نمطي (غير رجولي كما يلزم وغير أنثوني بما فيه الكفاية) أن يصبح حقيقة يوماً ما. 


مرمر زماني

 على قافية وألحان أغنية “مرمر زماني” تمكّن فريق “غني عن التعريف” من خلق أغنية تحكي قصة حب بين فتاتين. تحاول الأغنية توصيف المعاناة والضغط الذي يتعرض له المثليات والمثليين للزواج من العائلة والمجتمع، خصوصاً القهر الذي تتعرض له الفتيات انطلاقاً من موقع “ضعهفن” في المواجهة، بحيث من الممكن أن يتساهل الأهل أو يتغاضون عن ولدهم إذا تأخر في الزواج الأمر الغير مقبول بالنسبة للفتاة، “قلتلها لابن عمي يا عمري خطبوني عرفوا عنا والحكي عم يكتر”. لكن الأمر لا ينتهي عند الغصب على الزواج، فبطلة الأغنية تتحدى أهلها وتختار حبيبتها على الجميع بحسب ما تروي الأغنية: “قلتلا معك لو زعلوا أهلي وصحابي تعي ع قلبي، تعي زينة ع بوابي”. تحاول الأغنية توصيف قصة حبيبتان تفرقتا بسبب الأهل وعادات المجتمع ولكنهما لم يتخليان عن بعضهما البعض بما ذلك من عتاب وعذاب حيث تقول الكلمات: “مرّت قالتلي عنك أبعدتيني اختاري بعدي، يا إمّا بتختاريني قلتلا دخيلك ما تروحي وتتركيني بدونك قلبي دقاتو بتتعتر”، في أصدق تعبير عن المشاعر والأحاسيس التي يعاني منها أي حبيبين/حبيبتين يضطران للتخلي عن بعضهما البعض بسبب الضغوط الإجتماعية. الأغنية إذاً تجسيد للحظات إنسانية وتوثيق لعقبات تواجه المثليات والمثليين في مجتمعاتنا. 

 

 يا ظريف الطول

يتناول هذا الجزء من الأغنية موضوع الهجرة من المنطقة بحثاً عن حياة يستطيع فيها الفرد ممارسة حياته بأمان أكبر. هذا “الحل” السحري لمشاكلنا وصراعنا في سبيل الانتصار لهوياتنا الجنسية والجندرية غير المعيارية تحاول الأغنية إبرازه على أنه ليس الحل الوحيد، في ظل وجود أشخاص قادرين على مساندتنا. “يا ظريف الطول وقف تاقولّك رايح عالغربة وبلادك أحسنلك” نقداً للتعريفات النمطية والغير نمطية التي ابتدعها الغرب للترويج لنفسه على أنه “منبع الحريات وجنة الإختلافات وتقبل الآخر” على عكس بلادنا “المتخلفة”.

 

على دلعونا

في الختام يصّر العمل على أننا باقون هنا في بلادنا نحارب من أجل حياواتنا وهوياتنا “منكم وفيكم بنضلنا هونا منضلنا هونا بلادك وبلادي”. يتخذ العمل خطاً نضالياً واحداً ضد جميع أشكال الاحتلال من الاحتلال الصهيوني لأرضنا ومحاولات احتلال أهلنا ومجتمعاتنا لأجسادنا ولكن مع إختلاف جوهري في أنواع المقاومة، حيث يدعو العمل الأهل إلى تقبّل أبنائهم وبناتهم على إختلاف هوياتهم الجنسية والجندرية ليكونوا يداً واحدة في وجه الإحتلال الأساسي الذي يحاول من جهة أخرى أن يستغل تلك الشروخ ورفض الأهل لأبنائهم للترويج لنفسه على أنه أكثر حضارة ورقي وتقبّل للهويات الجنسية والجندرية غير المعيارية.  

 

“موندجرين”

في الحديث عن عملية “موندجرين” وعلاقتها بالإنتاج الموسيقي، فإن العملية تتشكل من عدة ديناميكيات تتمظهر في إجبار الرقابة بعض الفنانين على تغيير بعض المفردات في أغانيهم مثلاً تحت حجج مختلفة أبرزها “الحشمة والأدب” و”حماية المجتمع”، كما حصل مؤخراً مع أغنية “بنت الجيران” ومنعها من قبل نقيب الموسيقيين “هاني شاكر” بسبب احتوائها على جملة “اشرب خمور وحشيش” الجملة التي كان قد طلب شاكر حذفها من الأغنية في مثال واضح على إستخدام السلطة في التأثير على كلمات الأغنية في سبيل تحقيق مصالح سلطوية على المستمعين/ات.

العملية المضادة لتدخل السلطات في الرقابة على الأعمال هي عمليات تحوير كلمات أغانيٍ ذات علاقة وطيدة بالمجتمع قد تكون مرتبطة بأحداث سياسية واجتماعية مهمة في تاريخ الجماعة أو ذات علاقة بالتراث الوطني كرمز للاعتراض على واقع معين وجذب الانتباه لقضايا أو مواقف سياسية أو اجتماعية مهمشة مثل استخدام الأغنية العراقية “جنّة جنّة يا وطنا” للفنان “رضا الخياط” في الثورة السورية التي غناها “عبد الباسط الساروت” وأدخل عليها مقاطع خاصة بمعظم المحافظات السورية.

“منكم وفيكم” هو مثال واضح على هذا النوع من المبادرات أو التكتيكات في سبيل توسيع النقاش المجتمعي حول قضايا التعددية الجنسية والجندرية من خلال تحوير كلمات أغاني من التراث الفلسطيني والشامي وإعادة إنتاجها علي ذات الألحان التراثية تقريباً ولكن بتقنيات معاصرة. هذه المحاولة لإنتاج موسيقى حديثة بروح تراثية، بحيث تعيد الجمهور إلى ذلك الجزء الخاص بهوية الأمة وتاريخها ولكنها في ذات الوقت تعرض قضايا فئة كبيرة من أبناء ذلك المجتمع نفسه، هي محاولة ناجحة لإنتاج نوع جديد من الموسيقى المعاصرة المشتبكة مع الماضي والتراث تفتح أمامنا آفاق جديدة للتعامل مع هيكليات القمع الواقعة علينا كأشخاص غير نمطيّ الجنسانية.