بقلم سامي عبد الباقي
تصوير عمر شاع
تلبيس جاد تغوج
شكرا خاص لمسرح البلد
هذا المقال من ملف ‘الهجرة والغربة’ – هيكل العدد هنا

 

“أنا لست النجم الذي تبحث عنه، أنا شخص بيحب يعمل أغاني. ومدير أعمالي لحالي” الفنان الأردني إدريسي يخبرني عبر مكالمة هاتفية.

رافقت فترة مراهقة إدريسي فرق روك عديدة، مثل المربع، آخر زفير، ماي كمكل رومانس، ومن ذلك الحين أراد أن يصنع موسيقا تجعل الناس تشعر بما كانت تلك الفرق تشعره. كان حلمه أن يكون مغنياً ومؤدياً رغم أنه لم يكن قادراً على شراء أي آلة موسيقية، إلى أن أهداه إحدى أصدقائه جيتاراً في عمر السابعة عشر عاماً. بدأ بكتابة أغانيه الخاصة به وكان من المهم بالنسبة له أن يكتب أغانيه بلهجته ولغته كما هو الحال إلى يومنا هذا. تخصصّ بفرع الفنون المسرحية في الجامعة الأردنية، وساعدته دراسة المسرح على أن يكون أكثر جرأة في التعبير عن مشاعره في كتابة أغانيه. في عامه الثاني خلال دراسته التقى نيروز العجلوني، بدؤوا بمشاركة الأغاني والأفكار والكلمات في جلسات موسيقية إلى أن أسسوا فرقة “جراسين” المؤلفة من كليهما. أطلقوا أول ألبوم EP لجراسين عام 2018 من إنتاج وتوزيع وتسجيل نيروز، وكلمات وغناء إدريسي. تم التسجيل في قبو منزل نيروز وحصد الألبوم استماعات عديدة على عدة مواقع. “أنا كنت مصدوم من نجاح ووصول الألبوم”، يخبرني إدريسي “عملنا جولة موسيقية في مصر بعد 3 شهور من انطلاقة الفرقة، وقررنا ناخذ استراحة بعد انتهاء الجولة، لكن أنا كنت متحمس وبدأت اشتغل على مشاريعي الخاصة”.

كان أول مشروع منفرد لإدريسي عام 2019 مستوحى من مقالة قرأها عن نسب انتحار الشباب في العالم وكان مصدوماً من النسبة العالية جداً ومن قلة الاهتمام في حل هذه المشكلة والحديث عنها. قرّر أن يأخذ الأمر على عاتقه وسجّل ألبوماً من غرفته بعنوان “لون الشمس” في محاولة منه لنشر الوعي عن ظاهرة الانتحار، أطلقه على موقع ساوندكلاود. كلمات الألبوم العاطفية وصوت إدريسي يشعرنا وكأننا معه في غرفته، أو كأننا نحلّق على سحابة وردية. ألبوم “لون الشمس” وما تبعه من حفلات في الأردن عرّفت إدريسي على جمهور جديد يختلف عن جمهور جراسين؛ جمهور أقرب إليه ولذاته، حقيقيّ وحسّاس. بدأت من بعدها فترة الحجر الصحي حين تواصل مع محمد عبدالله من فرقة المربّع ليطلب منه المشاركة على أغنية “مرايا”.

يمين: محمد عبدالله و إدريسي. شمال: إدريسي. تصوير عمر شاع وتلبيس جاد تغوج

كتب إدريسي أغنية مرايا عام 2017 خلال مشاركته في مسرحية “الآن هنا وما بينهما” من إخراج ورؤية المخرج الأردني محمد بن هاني ومن إنتاج جسد للتدريب والبحث، عن قصة “إلى أربع نساء” للقاص مهند صلاحات. المسرحية هي المسرحية الأولى من سلسلة عروض تتضمن 3 مسرحيات بذات العنوان وتركّز كل مسرحية على مفردة منه، لتتناول الأولى كلمة “الآن” وتتحدث عن اللحظة الآنية والحاضر.

يناقش العمل فكرة اللجوء والغربة من خلال ثلاث شخصيات، الفنان والمخرج المسرحي فريد (إدريسي) الذي سافر من وطنه بعد أن تم إيقاف إحدى مسرحياته لأسباب مجهولة، والطالبة الجامعية عناية (صوفيا الأسير) التي هربت إلى المهجر بعد أن واجهت مشاكل تتعلّق بدراستها وقراءتها كتب ممنوعة وقاضي تحقيق سابق يدعى وحيد المثنى (محمد بن هاني) يمثل الجهاز الأمني الذي يشكك في معتقداته وعواقبها. تربط الغربة الشخصيات الثلاث بعد غياب حرياتهم في موطنهم الأصلي، وتتواجد في مكان ما خارج الأوطان دون معرفة مسبقة بينهم إلى أن يجمعهم انفجار قنبلة في إحدى الأسواق في إشارة من المخرج أن فعل القتل والإرهاب والكراهية موجود في أي مكان في العالم. تعالج المسرحية قضية الاغتراب من ناحية إنسانية وتنظر إلى علاقة الشخصيات ببعضهم البعض وبالزمان والمكان الذي يجمعهم، وتطرح أسئلة عدة على لسان شخصياتها، منها “لمَ وطني أنا من بين كل الأوطان؟” دون الإجابة عنها. ولذلك خلال فترة التدريب كان يأتي المخرج بأسئلة شخصية ووجودية مثل “ما هو الحيوان الذي بداخلي؟ من هي المرأة بداخلي؟” ليلهم الممثلين، وفي اليوم التالي كانوا يأتوه بمشهد ما مستوحى من تلك الأسئلة. في إحدى الأيام سألهم “شو شعورك والقناصين عالسطوح منتشرين؟” على أن يرتجلوا مشهداً من ذلك السؤال. لكن إدريسي كتب أغنية مرايا وافتتحها بذلك السؤال دون أن يؤدّيها في المسرحية، رغم أنه قام بتأدية عدة أغان خلال العرض. أبقى الأغنية مخبأة إلى أن شاركها مرّة في إحدى جلسات “الجمجمة” الموسيقية كما يسمّيها، مع محمد عبدالله.

 “عزف لي إدريسي الأغنية السنة الماضية وكان لديه فكرة أن نتشارك في غنائها وتسجيلها. ولكن رأيي كان أن الأغنية قوية جداً ومن الأفضل أن يؤديها لوحده” يشاركني محمد عبدالله. “تواصل معي في شهر آذار خلال فترة الحجر، كنت مكتئباً ولم أستطع كتابة أي أغنية. استمعت إلى الأغنية وقرّرت أن أغنيها مع إدريسي، قمت بتسجيل مقاطعي من غرفتي التي هي مكان حميمي بالنسبة لي، فكانت تجربتي مع أغنية مرايا شخصية وحميمية”.

 

مرايا تعكس رحلات الكثير من العرب لما مرّوا من حروب وثورات وعواطف، أغنية مرايا تحكي بالنيابة عنا كل ما أردنا قوله يوماً، ولكن لم نجد الكلمات المناسبة.

يمين: محمد عبدالله و إدريسي. شمال: إدريسي. تصوير عمر شاع وتلبيس جاد تغوج

قام عبدالله بمشاركة مشاعره تجاه أغنية مرايا في منشور على صفحته الخاصة على فيسبوك. “كاتب الأغاني المفضل بالنسبة لي، محمد إدريسي، طلب مني الغناء معه على هذه الأغنية الرائعة. لم يكن يعلم أنه عمل لي معروفاً لأني بدأت في العمل على الأغنية من غرفتي خلال فترة الحجر وساعدتني على تخطي فترة صعبة. شكراً إدريسي”.

تم إطلاق أغنية مرايا في شهر أيلول من عام 2020 وكانت بمثابة حلم يتحقق بالنسبة لإدريسي، أن يؤدي مع إحدى قدواته الموسيقية التي تطلع إليها في صغره. يعدّ محمد عبدالله من الموسيقين المؤثرين في عالم الروك العربي منذ تأسيسه لفرقة المربّع ومن المؤثر رؤية جيلين موسيقيين مختلفين في أغنية واحدة، وأن نشهد تأثير كل منهما على الآخر. ويمكننا استخراج صوت “مربعّي” من أغنية مرايا في نمط العزف على الجيتار، والكلمات العاطفية، وصوت محمد عبدالله المميّز.

“كان مطمئن بالنسبة لي أن أشهد نتائج كل ما قدّمته موسيقياً خلال السنوات الطويلة وكيف أثّرت وساهمت في خلق جيل موسيقي جديد في العالم العربي. هذا هو التطور الطبيعي والصحي للموسيقى، أن تلهمك فرق موسيقية أو مؤديين معينين لخلق موسيقى خاصة بك ولكن بنفس مستوى تلك الفرق أو حتى بمستوى أعلى منها دون محاولة التقليد أو النسخ. كان زيد حمدان وموسيقاه في فرقة الصابون يقتل من الأصوات الملهمة موسيقياً بالنسبة لي وتسنّى لي العمل معه على أغنية “بيت” بمشاركة فرقة طنجرة ضغط السورية. لذلك أتفهم شعور إدريسي وحماسه حين يؤدي مع من كان يتطلع إليه موسيقياً”.

اعتدنا على الحسّ العاطفي في أغاني إدريسي ومرايا ليست استثناءً من ذلك. تتطرق كلمات الأغنية إلى عدة مواضيع في ذات الوقت، عن المكان والحب والحرب والعلاقات والذات والذكريات. “بالنسبة لي، الأغنية تتحدث عن شعور الحب عن بعد، أو أن تحب شيئاً دون أن تحصل عليه، عن الحب في خضمّ كل الفوضى والبشاعة التي يقدّمها لنا العالم كل يوم، وهي أيضاً عن شعور القوة الذي نشعر به حين نتخلّى عن المكان أو الشخص الذي نحب” يخبرني إدريسي. “أتخيل الأغنية على الشكل التالي، كأنك في ميدان ثورة تتظاهر وتهتف مع أحبائك، تشاركهم بذات الأفكار والطموحات وآمال التغيير، وبعد سنة تزور ذاك الميدان لتجده فارغاً وكئيباً. غادر الجميع ولم يتغير أي شيء. لقد خسرت المعركة. إن كان للخذلان صوت، سيكون هذه الأغنية. لم أشهد أي ثورات كوني من الأردن، ولكن شاهدت ثورات الربيع العربي على الشاشات وشعرت بمسؤولية التطرق إلى هذا الموضوع في الأغنية”.

محمد عبدالله و إدريسي. تصوير عمر شاع وتلبيس جاد تغوج

 “أجل، أظن أن كل شخص قد يجد معانٍ مختلفة في كلمات الأغنية بحسب ما تعكس من تجاربه الخاصة”، يضيف عبدالله. “بالنسبة لي، الأغنية تتحدث عن سنة 2020 خصوصاً في الجملة التي تقول روح وما عاد تترك وراك انعكاس. لا أحد فينا يرغب بتجربة 2020 مجدداً. ولكن تتحدث الأغنية أيضاً عن الصراع الداخلي والمشاعر المختلطة تجاه من نحب، يوماً نرغبهم ونشتاق إليهم، واليوم التالي نطال منهم الرحيل بعيداً”.

بالنسبة لي، مرايا تتحدث عن العودة إلى المكان الذي خذلك وأذاك، تعود إلى ذلك المكان فقط لتُذكّر لما رحلت في المقام الأول. عن مشاعر الحب والكره المختلطة تجاه بلادنا. تارةً نغنّي عطرك يفوح في ميادين، إنت بثوراتك ما أجملك، وتارةً نغنّي أنا ما عدت أحبك مثل الأول. وعن نفسي كسوري غادر بلاده سعياً لمستقبل دراسيّ أفضل، لا يسعني إلا التفكير بكل من هاجر ونزح إلى برّ الأمان في بلاد مختلفة، ومشاعرهم المتخبّطة بين الراحة والسعادة لمغادرتهم، وتمنيّهم لو أن البقاء كان ممكناَ. مرايا تعكس رحلات الكثير من العرب لما مرّوا من حروب وثورات وعواطف، أغنية مرايا تحكي بالنيابة عنا كل ما أردنا قوله يوماً، ولكن لم نجد الكلمات المناسبة.