بقلم  موسى الشديدي
العمل الفني: ياسمين دياز 
هذا المقال من ملف ‘الهجرة والغربة’ – هيكل العدد هنا

طوال مراهقتي كنت مغرما بالصورة التي تقدمها وسائل الإعلام عن الهجرة واللجوء المثلي للغرب، الراحة الأبدية والسعادة والتحرر ومسيرات الفخر ومسكة اليد بأمان في الشارع مع من تحب، حتى كبرت وانخرطت في العمل النضالي الكويري وبدأت أفهم تنوع خياراتنا وتجاربنا، وأن اختزال التجارب في صورة نمطية واحدة بنهاية سعيدة تلغي وتهمش العديد من التجارب الأخرى التي لا يسلط عليها الضوء بقصد أو دونه، فقدت العديد من الأشخاص المقربين وأنا أتقدم بالعمر لصالح  اللجوء للغرب، لا ألوم أحدا منهم/هن، لكن كل مرة كنت أخسر أحدهم/هن كنت أشعر بغربة من نوع ما، كما يقول المناضل غسان كنفاني فالغربة “هِي أَن تَـفقد حدِيث مَن تُـحبّ” ولهؤلاء الذين أشعرتني هجرتهم/لجوئهم بغربة دون أن أتحرك من مكاني، أكتب هذا النص.

تقع أغلب منصات الإعلام “المناصر” لأفراد مجتمع الم.م.م.م.١ سواء الناطقة بالعربية أو بلغات أجنبية كالإنجليزية عند تناولهم هجرة/لجوء الم.م.م.م. من البلاد الناطقة بالعربية  للغرب بعدة هفوات شائعة ومغالطات تدور حول صور نمطية نحاول كسرها طوال الوقت في الحقل، سأستعرض هنا أبرز هذه الفخاخ وأفسر لماذا هي مؤذية لمجتمع الميم في البلاد الناطقة بالعربية والغرب على حد سواء، حتى نساعد من يريد العمل حول هذه التجربة وتسليط الضوء عليها أن يتمم عمله دون ترسيخ أي صورة نمطية أو مغالطات مؤذية بأي أحد لأقصى حد ممكن.


1 تصوير الغرب كجنة للم.م.م.م،
على الرغم من انتشار جرائم الكراهية فيه التي تودي بأرواح العديد من أفراد مجتمع الميم في الغرب يوميا وهذه الأعداد في تزايد مستمر، فبعد أن سجلت HRC أكبر جمعية مثلية في الولايات المتحدة مقتل 26 امرأة ترانس في 2018 تجاوز عدد القتلى هذا الرقم في 2019، و1300 جريمة كراهية ضد  أفراد الم.م.م.م. في الولايات المتحدة عام 2018 بحسب ال FBI، وبحسب استبيان الحكومة البريطانية لوضع حياة أفراد الم.م.م.م. عام 2017 الذي أجري على عينة هائلة مكونة من 108 ألف شخص، تبين أن أكثر من ثلثي العينة يخافون إمساك أيدي شركائهم في الأماكن العامة وشخصان كل خمسة أشخاص كانا قد تعرضا لموقف مسيء بسبب ميولهم الجنسية أو هويتهم الجندرية. وبحسب الإحصائيات 40% من المشردين/ات ومن هم/هن بلا مأوى في كندا من أفراد مجتمع الميم، على الرغم من ذلك تصور وسائل الإعلام المناصرة للم.م.م.م. رحلة اللاجئين من المعاناة في الشرق إلى الحرية والرخاء في الغرب متجاهلة كل هذه المشاكل.

في حوار مع الناشطة النسوية الكويرية داليا الفغال من السويد حول تأثير هذه السردية قالت لي أن الأمر يشبه كثيرا عندما تطلب منك أمك أكل غدائك حتى لو لم يعجبك لأن هناك من لا يجد طعاما، وأطلقت عليها “سياسة أحمد ربنا”٢ وقالت “هذا يعزز الهوية الشوفينية والفوقية العرقية البيضاء العنصرية، فهذه المقارنة في هذا السياق بحد ذاتها شكل من أشكال التهميش المزعج جدا، نحنا مشكلتنا وحدة حول العالم ويجب عرضها من منظور تقاطعي يأخذ الامتيازات بنظر الاعتبار”٣.

فتصوير الغرب كمكان آمن لأفراد مجتمع الميم إنما يتجاهل ويسخف أوجاع أفراد مجتمع الميم في الغرب وكأنها غير موجودة، حيث نجد أغلب الأعمال المكتوبة أو المرئية تتحول من تصوير تعاسة الفرد المثلي في الدول العربية إلى تصوير الراحة المطلقة والسعادة الغامرة للفرد المثلي العربي المهاجر/اللاجئ في المدن الغربية بشكل غير واقعي.


2 تصوير الغرب كصديق لللاجئين/ات العرب والمسلمين
وهذا يعرض اللاجئين/ات لصدمة عند ذهابهم/هن إليه واكتشاف الاختلاف عن الطريقة التي تم تصويره بها، فهناك صعود التيار اليميني المتطرف الكاره للمهاجرين وهناك أعمال عنصرية عديدة ضد غير البيض في أكبر المدن الغربية، وتحديدا ضد العرب والمسلمين/ات.

حيث وثقت human rights watch  في 2018 “حالات من العنصرية وجرائم الكراهية العنيفة ضد اللاجئين/ات في بلاد الاتحاد الأوروبي مثل بلغاريا وفرنسا وألمانيا واليونان والمجر وإيطاليا وسلوفاكيا وإسبانيا والمملكة المتحدة”، وإن كانت المهاجرة من مجتمع الميم الناطق بالعربية محجبة مثلا فهذا قد يعرضها لعداء الإسلام إلى جانب العنصرية في الشارع وفي بيئة العمل، فبحسب CCIF الفرنسية 70% من ضحايا كراهية الإسلام من النساء، وتزداد حدة الاعتداءات مع ارتداء الحجاب الذي قد يصل لمحاولة الاغتصاب والاعتداء الجسدي، وكذلك وجود العديد من الحوادث التي تعرض فيها أشخاص للعنف الجسدي بسبب حديثهم باللغة العربية في شوارع المدن الأوروبية (مثل باريس)، فيجب أن يكون واضحا أن العنف الذي يمارس في البلاد العربية ضد الأشخاص بسبب ميولهم الجنسية أو تعبيراتهم الجندرية قد يتحول إلى عنف يمارس عليهم بسبب لون بشرتهم أو لكنتهم أو دينهم في البلاد الغربية، وهو ما يتم تجاهله في أغلب الأحيان عند الحديث عن المهاجرين/ات واللاجئين/ات من مجتمع الميم في الإعلام “المناصر” للم.م.م.م. ، فيتم سؤالهم عن شعورهم تجاه جنسانيتهم فقط في الغرب دون الحديث عن تحولهم من أقلية جنسية في البلاد العربية لأقلية عرقية أو دينية في الغرب، وكأنهم مثليين/ات ومتحولين/ات فقط، وهكذا يختزل الإعلام “المناصر” تجربة اللاجئين العرب المسلمين من مجتمع الميم بجنسانيتهم فقط. 

في حوار مع راما سبانخ عضوة في pride of arabia  وهي مساحة لمجتمع الميم الناطق بالعربية في لندن أكدت أن المشكلة “تتجلى بالمفارقة الواضحة، كيف لهم أن يتدعوا مناصرة مجتمع الميم وفي الآن ذاته يمارسون العنف السياسي على فئة من مجتمع الميم (المسلمين والعرب) بصمتهم عن الانتهاكات والكراهية التي تبث ضدهم. في المحصلة، هذا إعلام إقصائي، يحب وينتصر لنوع واحد من المثليين ويغض البصر عن الانتهاكات الواضحة لآخرين، بيساطة، إعلام عنصري وتميزي”. 


تكمل قائلة “تأثير انعدام التغطية على مخاطر وكره اللاجئين وخصوصاً المثليين يؤثر بتشكيل الموارد والمساعدة المتاحة لهم، فخدمات الجمعيات وحماية السلطة حتى تحاكي الرأي العام وقضاياه، “لا تغطية يعني لا مشكلة يعني لا حلول!٤

في حوار مع مالا بادي الناشطة الفنانة المغربية الترانس غير محددت الهوية الجندرية والمقيمة في أمستردام قالت “الحياة هنا ليست مثالية للمهاجرين/ات عموما وليس فقط الكويرز والعابرات بل كذلك للغيريين، نعم هنا العنف أقل والحرية أكثر، لكن الضريبة هي التعامل العنصري والعنصرية المؤسساتية وأنا أتكلم هنا عن هولندا التي أعيش بها وتختلف عن فرنسا وإيطاليا مثلا، الإعلام في الغالب يطرح قصص لاجئين الم.م.م.م. بسياق استشراقي عنصري في الوقت الذي يواجه فيه اللاجئين/ات صعوبة في إكمال الدراسة أو العثور على عمل مرموق ويتعرضون للعنف في المخيمات، ويتم المتاجرة سياسيا بهم على اعتبار أنهم ينقذوننا من مجتمعاتا وحكوماتنا”٥.


3 تصوير الدول الغربية ككيانات مناصرة لأفراد الم.م.م.م في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومعادية للأنظمة التي تنتهك حقوقهم فيها
إلا إن غالبية الدول الغربية التي تستقبل اللاجئين واللاجئات تدعم ذات الأنظمة والحكومات الكارهة للمجتمع الميم، التي هرب أفراد الميم خوفا منها، فمثلا السويد التي تستقبل اللاجئين المثليين/ات والعابرين/ات تربطها صفقات سلاح مع النظام السعودي الكاره للمثلية والعبور الجنسي، وتهدد المثليين بفضح ميولهم الجنسية في حال معارضة نظام الحكم، وكذلك تعتقل من يدافع عن المثليين على الإنترنت مثل المدون اليمني محمد البكاري، وفي فيديو تابع لأمن الدولة السعودي صنف “الشذوذ الجنسي” و”النسوية” كشكل من أشكال الإرهاب، على الرغم من ذلك ما تزال بريطانيا تبيع الأسلحة للسعودية بحجة محاربة الإرهاب، وإحدى أكبر ثلاث شركات تجارة أسلحة في العالم BAE systems البريطانية تمويل مسيرة الفخر في بريطانيا كي تبدو صديقة لمجتمع الميم بالأموال التي تجنيها من خلال بيعها أسلحة لحكومات تقوم بقتل أفراد الميم حول العالم، أي إن من يستقبل اللاجئين المثليين ويتظاهر بحبه لهم/هن له دور في دعم العنف الذي جعل بلادهم غير أمنة وجعلهم بحاجة للجوء والهجرة، عدم ذكر هذا يصور الجلاد منقذا، بالتالي يخلي مسؤولية من تسبب بهذا الأذى للمثليين والمثليات والمتحولين والمتحولات.يقول لنا حسن كيلاني المؤسس المشارك لجمعية رينبو ستريت المعنية بمساعدة اللاجئين من الم.م.م.م. “من المضحك المبكي أن نصور من يعطي أدوات القمع للقامع كـ”دولة صديقة للم.م.م.م.”. وبسبب هذه السردية في الإعلام نرى تصاعد القومية المثلية في الغرب كتلك التي تدعم ترامب مثلا؛ الكارهة للمهاجرين واللاجئين العرب/المسلمين بغض النظر عن جنسانيتهم”٦. أما داليا فغال فقالت “الحكومات الغربية طول الوقت بتقول للم.م.م.م. في الشرق الأوسط “أنا بتصدق عليك، شوف إزاي أنا بخدمك وكويس معاك، وبدافع عنك” والتعاونات العسكرية مستمرة مع الحكومات التي تقمعهم في نفس الوقت، لأن مساعدة الأقليات بالنسبالهم واجب شوفيني غرضه تعزيز فكرة المنقذ الأبيض في شعوبهم حتى لا يلتفت الجميع لتطبيعهم مع اليمين المتصاعد والأنظمة الفاشية اللي بينتفعوا منها اقتصاديا واستراتيجيا حتى الآن”.

4 تصوير الحكومات الغربية كمساحة مرحبة باللاجئين الم.م.م.م وهذا غير صحيح فالحكومات
الغربية ترسل العديد من المثليين والمثليات إلى بلادهم الأصلية حتى بعد إثباتهم/هن أن حياتهم/هن ستكون بخطر فيها، نجد وزارة الداخلية البريطانية رفضت أكثر من 3100 طلب لجوء لأفراد الم.م.م.م بين 2016 و2018 من دول تجرم المثلية الجنسية والعبور الجنسي، وفي النمسا رفض لجوء مثلي أفغاني لأنه كان قد تشاجر مع رفقاء سكنه وهو ما وجدته دائرة اللجوء دليل على أنه ليس مثلي، “فليس من المتوقع أن يتشاجر المثليين” والدليل الآخر هو عدم امتلاكه للعديد من الأصدقاء حيث جاء في التقرير “أليس من المفترض أن يكون المثلي اجتماعيا”؟ ولهذا السبب رفض طلب اللجوء الخاص به، وفي حالة أخرى تم رفض طلب لجوء ناشط مثلي عراقي كان قد ترجم كتبا عن الجنسانية وتطوع في جمعيات مثلية في النمسا لأنه “كان أنثويا جدا” بحسب دائرة اللجوء، وهذا ما جعلهم يعتقدون أنه يتظاهر بالمثلية!

في حوار مع كيغن تيريك طالب الدكتوراه الأمريكي في الأنثروبولوجيا والذي تتمحور أبحاثة حول عمليات اللجوء عبر الأردن على أساس الميل الجنسي والهوية الجندرية، وقد سبق له والتقى بالعديد من اللاجئين الم.م.م.م. في الأردن، حدثني بلغته العربية الجيدة حول تهميش الإعلام هذه المعناة فقال لي “أظن أن وسائل الإعلام الرئيسية في الكثير من الحالات تصور اللجوء مركزة إما على الظروف الكارهة للمثلية التي يهرب منها اللاجئون المثليون في بلادهم الأصلية أو على وصولهم و”إنقاذهم” في بلاد إعادة التوطين – أو كلا الموضوعين مع بعض – وبالتالي يمحو هذا الخطاب الإعلامي الواقع الذي يواجه أغلبية اللاجئين بالعالم، والذين يقضون سنوات عائشين فيما يسمى ب”بلدان اللجوء الأول” منها الأردن والتي لا تمنح لهم حق اللجوء أو الاعتراف القانوني الذي سيسمح لهم بالمشاركة الكاملة في المجتمع، بل تستمر في اعتبار هؤلاء الأشخاص “ضيوف مؤقتين”، والجدير بالذكر هنا أن الدور غير المتكافئ الذي تمثله بلدان اللجوء الأول هذه ليس ناتجا عن ظروف “طبيعية”، إنما بالأحرى يعكس مصالح الدول الغربية السياسية والاقتصادية – المسكوت عنها بخطاب وسائل الإعلام الرئيسية – التي تعمل على بقاء اللاجئين خارج حدودها رغم مسؤوليتها غير المتناسبة عن التحريض على العنف والدمار في البلاد الأصلية لهؤلاء المهجرين قسرا، ونلاحظ أيضا أن حتى المهاجرين الذين يصلون إلى البلدان الغربية لطلب اللجوء يمرون بعمليات رسمية قد تستغرق سنوات وتتسبب في الكثير من التحديات بما في ذلك التمييز والعنصرية في الوصول إلى الموارد الاجتماعية والاقتصادية ناهيك عن المعاناة النفسية الناتجة عن الخوف المستمر من الترحيل، وبما أن هذه القضايا لا تحصل على التغطية الإعلامية إلا بالحالات القصوى، فأظن أنه قد يبدو لبعض اللاجئين وخاصة الذين يعتبرون أنفسهم الأكثر استضعافا منهم أن عمليتي طلب اللجوء وإعادة التوطين تحدثان ليس فقط بسهولة بل بسرعة كذلك، الأمر الذي يتناقض مع تجاربهم الشخصية فيما بعد ويثير إحباطهم”٧.

الخاتمة:
أنا لست ضد اللجوء، بالنسبة للعديد من أفراد الم.م.م.م. لا يوجد خيار غيره، ولكن أنا ضد طرح قصصهم/هن في الإعلام بسردية قد تؤذيهم/هن أو غيرهم/هن من أجل الترويج لتوجه فكري استشراقي، عنصري، استعماري خدمة لمصالح كيانات ودول لا تهتم بسلامة أحد، على العكس أعتقد أن الغرب يجب عليه تحمل مسؤولية تمويله لحكومات تقتل مواطنيها وأن يستوعب هؤلاء المواطنين والمواطنات ويوفر لهم البيئة الأمنة لا كرما منها بل ببساطة لأنه هو من يسلح ويدعم من يعذبهم ويعتقلهم ويقتلهم. وعلى المنصات الإعلامية الحيلولة دون السقوط في هذه المغالطات والاختزالات، وحماية قصص اللاجئين واللاجئات من أن تشوه وتستخدم ضد إخوانهم/هن وأخواتهم/هن لمصلحة من تسبب بتهجيرهم/هن.