بقلم جنى نخال
اللقطات من الفيديو المرفق مع المقال من كليب “بدي عيش” لهيفاء وهبي
هذا المقال من ملف ‘إنشالله بكرا’ – هيكل العدد هنا

بينما لا تظهر أي بوادر حقيقية للقاح قد ينهي الجائحة، تتقلّص مساحات الحركة الجسدية، الاجتماعية والجنسية للأفراد. بالنسبة لكثير من الأفراد، بدأ العيش ضمن عائلة يثقل كاهلهن\م بسبب ضيق المنازل من جهة أو تقاطع النشاطات بين الأفراد.

كيف نتفاعل كأفراد وعائلات داخل المنازل، بين مساحاتنا الخاصة ومشكلة غيابها؟ وكيف يتحوّل المنزل وما حاجاتنا التي نكتشفها فيه خلال الحجر؟ 

على مستوى العلاقات، من ناحية، يجد الأزواج أو المرتبطون بعلاقات أحادية أنفسهن\م أمام علاقات من نوع مختلف بسبب عدم القدرة على الخروج من المنزل أو التفاعل مع الآخرين، ممّا يضع العلاقات الأحادية في وضع مساءلة وتوتّر من جهة ويفتح المجال أمام تفاقم موازين القوى وأشكال الاستغلال في هذه العلاقات، من جهة أخرى. 

ومن ناحية ثانية، تطرح الجائحة وتجلّياتها، معايير جديدة لأشكال العلاقات وحدودها كما المخاوف الجديدة، أمام الأفراد غير المرتبطات\ين. يأتي السؤال الأول حول مكان لقاء أشخاص آخرين وأخريات -في ظل الحجر وإغلاق معظم الدول لأماكن العمل والسهر  والمطاعم والمقاهي التي غالباً ما تكون أماكن للتعارف- كما الخطورة الصحية للقاء أشخاص جدد سيما في إطار العلاقات الجنسية المتعددة. من هنا، تضاعف لجوء الأفراد لتطبيقات المواعدة. فما هي نتيجة اللجوء إلى هذه التطبيقات، على مستوى المكان –هل يحلّ التطبيق مكان المساحات العامة؟- وميكانيزمات التعارف؟ وأخيراً، التغيير الحاصل في طبيعة وشكل العلاقات التي نريد خاصة بعد أن فرض الحجر علينا التفاعل مع أصغر عدد ممكن من الناس. 

نحاول في طرحنا أن نضيء على التغييرات الحاصلة على الأمكنة والمساحات التي نعيش فيها خصوصيتنا وتلك التي نلتقي فيها بالآخرين، نتيجة للجائحة والخطوات الوقائية والقلق الناتج عنها من جهة، ونتيجة للحاجات النفسية والعاطفية الجديدة -أي بلورة المعايير والأولويات العاطفية المختلفة، نشأت منذ الحجر – التي وجدنا أنفسنا أمامها كأفراد، في ظل الجائحة.

في لحظات عديدة ونحن نشاهد الأفلام أو المسلسلات – والـ”سيريز” هي الأفلام الجديدة لزمن الجائحة ومابعدها- تباغتنا مشاهد كانت عادية: تجمّعات بشرية، تقارب، أشخاص يتزاحمون في المترو، شخص تأكل  قضمة من سندويشة زميلها في العمل…أفواه وأنوف مكشوفة، وأياد تلمس الأشياء والوجوه. ما كان تصرّفات اعتادها البشر منذ زمن، أصبح الآن يبعث فينا القشعريرة. فالجائحة فعلت فينا ما لم يفعله شيء آخر منذ بداية هذا القرن بهذه السرعة، بحيث غيّرت عاداتنا وعلاقتنا بأجسامنا وأجسام الآخرين وبالمكان. سنناقش خلال هذا النص، اعتماداً على مشاهدات ومقابلات مع عدد محدود من المعارف، بالإضافة إلى نقاشات مطوّلة مع عدد من الأصدقاء من خلفيات متعدّدة -بين الفلسفة والفنون والعلوم الاجتماعية والعمارة- تجاربنا خلال الحجر بهدف جمع عدد من المشاهدات والملاحظات التي نعتقد أنّها كفيلة بفتح آفاق التوقعات لما ستكون عليه حياتنا الاجتماعية وشكل بيوتنا بعد الحجر.

منذ منتصف القرن الماضي، تدخّل التنظيم والعمارة بتصميم البيوت وأماكن العمل والمرافق العامة من أجل الصحة العامة عبر لعب دور في خلق مساحات مصمّمة بهدف وقف أمراض كالسلّ1 وغيرها، فاتحين المجال على قراءة المجالات الخاصة والعامة من ناحية صحية. اليوم، وبينما يُدفع المكان إلى مقدّمة الأدوات التي تسمح بالحماية من الفيروس –أو انتشاره- يُدفع بالمكان أيضاً كبارادايم أساسي في مجال الصحة النفسية وتمظهرات العلاقات الاجتماعية. 

ونرى نتيجة ذلك على عدّة مستويات، في المكان الخاص والعام، من جهة، وفي تأثير الحجر من الناحية المكانية والاجتماعية، أي الانفصال عن المجتمع مكانياً واجتماعياً والتواجد المتسمرّ مع شخص واحد أو عدّة أشخاص محدّدين، من جهة أخرى، على الأشخاص والعلاقات. 

اختلفت المساحات خلال الحجر، أو على الأقل، هكذا أصبحنا نشعر، بعد شهور من الحجر. الغرف تبدو أصغر وأضيق، مساحات الحركة محدودة، والمساحات الخاصة تتعرّض للتعدّي من قبل كل من يتشاركون المنزل من أفراد العائلة، الشريك\ة أو شركاء السكن.

منذ أسبوع، قرّرت أن أبحث عن غرفة غير تلك التي أحتلّها الآن. لا لمشكلة فيها أو في المنزل الذي أتشاركه مع امرأتين، بل لأنّني، وخلال أربع أشهر من الحجر، فهمت بأن حاجاتي المكانية تغيّرت. 

تلك الغرفة الصغيرة الدافئة النظيفة التي يدخلها الضوء بشكل مريح، بدت في الحجر وكأنها لا تكفي: ما كان يكفي قبلاً تغيّر. وجدتني أبحث عن شيئين إضافيّين، غير ما كنت أبحث عنه دوماً من إضاءة كافية ونظافة وراحة. أريد غرفة أكبر، أستطيع أن أقوم فيها بنشاطات لم أكن أحتاج أن أقوم بها في المنزل قبلاً، وأريد الكثير من الصمت في المنزل، ممّا يعني عددٌ أقل من الناس. وإن كانت ميزانيتي تسمح، لكنت بالتأكيد حصت على منزل لوحدي. فهذا ما أظهرته لي الجائحة: التماس المستمرّ مع نفس الأشخاص، متعب ومرهق ويخلق توتّراً بين أشخاص كانوا قبلاً مقرّبين. وعينا إلى أن المكان هو أيضاً المسافة بين الأشخاص، والمساحة التي لا تتغيّر، لأن الإغلاق العام عنى أنّنا سنتواجد كل الوقت مع نفس الأشخاص، في نفس المكان.

من كليب “بدي عيش” لهيفاء وهبي

اعتماداً على المقابلات والنقاشات التي أجريتها منذ بداية الحجر ومع اختلافات أشكاله في لبنان والمنطقة، توافقت كل النقاشات على تأثير الحجر على علاقتنا كساكنات وسكّان، بالمسكن. 

من جهة، يبدو أن المشكلة ليست في مساحة المكان بحد ذاته فقط (أي شعورنا بأن المساحة الغرفة صغيرة)، بل في “وجود الكل في نفس المكان في الوقت نفسه”، وهو ما كان سكان المنزل الواحد ليشعرون به بشكل أقلّ لو كانت مساحة المنزل أكبر. ويتمظهر ذلك من خلال التضارب بين النشاطات التي يقوم فيها كل فرد، في الوقت ذاته وفي مكان يصعب الفصل فيه بصرياً أو سمعياً؛ فيقوم الأهل والأطفال من مختلف الأعمار مثلاً، باستخدام تطبيقات ك “زووم وجيتسي وميت” منذ الصباح حتى بعد الظهر، بهدف العمل أو الدرس، ممّا يعني بأن الجميع يتكّلم في الوقت ذاته، ويستخدم الإنترنت في الوقت ذاته، ممّا يجعل التركيز صعباً بسبب الصوت العالي، وممّا يؤثر على تغطية شبكة الإنترنت الضعيفة أصلاً في بلد كلبنان. 

” صوت الزوم عالي كل الوقت في المنزل”، تقول مايا، وهي باحثة في العشرينيات، وتعيش مع أمّها وأبيها وأختها وأخيها في بيت من حوالي 150 متر مربع “وصوت التلاميذ والمعلمات طالع. وصوت صف الماستير. وصوت الاجتماعات. فترة قبل الضهر خابصة. كل واحد بينحبس. فيه صوت طالع بيعملنا ستريس مش طبيعي.”

هذا وقد اتّفق الجميع على أن الوضع يكون أسوأ لأولئك اللواتي والذين يعيشون في بيوت أصغر أو مع عدد أكبر من أفراد العائلة. تقول مايا أن صديقها الذي يعيش في منزل يسكنه مع عشر أشخاص آخرين، لا يستطيع أن يشارك معها في تدريب يومي يقومان به، فيضطران لتنظيم التدريب إمّا بعد منتصف الليل بعد نوم الجميع في المنزل، أو في الصباح الباكر قبل استيقاظهم.

بينما السكن مع العائلة أصعب نفسياً واجتماعياً على الكثير من الناس، فقد أضاف الحجر إلى صعوبة هذا الوضع، وأدّى في كثير من الأحيان إلى ازدياد التوتّر وتدهور الصحة النفسية للعديد من الأشخاص. 

تقول ميراي، وهي تسكن في عمشيت خارج بيروت، ن بيت أهلها بعيد عن عملها وأصحابها، ون أهلها وسكّان المنطقة مختلفون عنها وعن أفكارها. وهو ما كان صعب عليها نفسياً خاصة أنّها لا تستطيع التنقّل بين عمشيت – وهي بلدة جنوب شرق بيروت، ينتمي أغلب سكّانها لتيارات طائفية محافظة سياسياً – وبيروت. قبل الجائحة كانت تقضي وقتها في بيروت مع أشخاص تستطيع التواصل معهن\م، على الرغم من أنّها لا تمتلك سيارة. “عادة ما بيوقف هالشي بوجهي وما بعزل حالي، بستعمل كتير الفان (باص صغير)، حتى أيام الجامعة. لحد ما صار فيه كورونا وصرت موسوسة. ففضّلت ما يكون عندي كتير كونتاكت بشري. وصار صعب عليي شوف أصحابي وغيّر جو.” لكنّها حصلت على عمل، وبفضل عملها في بيروت، استطاعت أن تستأجر غرفة في “دورمز” كانت تسكنه عندما كانت طالبة جامعية، فاستطاعت استرجاع قليل من الحياة “الطبيعية”، وهو أمر لا تستطيع فعله العديد من النساء لأسباب عائلية اجتماعية، أو اقتصادية.

وبما أن نشاطات كالعمل والدرس والرياضة أصبحت اليوم منزلية، فهي أيضاً أصبحت تتداخل وعمل ربّات البيوت. تعبّر مايا، وهي معمارية، بأن غرفة نوم أمّها ممنوعة عليها خلال الجزء الأول من النهار، لأن زوجها يستخدمها في التعليم، فلا تستطيع أن تدخل “فتحدث ضجة” ولا تستطيع حتى استخدام حمّامها الخاص. من جهة أخرى، لاحظت مايا، إن استخدام المطبخ أصبح يأخذ معظم وقت أمّها ربّة المنزل، “هي تقضي وقتاً أطول في المطبخ، وهيدا الشي بيخليها متوترة أكتر، عم تحس حالها كل النهار بالمطبخ، لكترة استعمال سكان المنزل للأشياء، من ناحية استخدام الكبايات والصحون أكتر، وهيدا تراكم شغل أكتر واستخدامها للمطبخ أكتر.” بل أن المطبخ بحد ذاته يصبح بالنسبة لها مساحة ضيقة “عم تعمل ردّة فعل عاللي بده يفوت عالمطبخ، وبتقلنا: ما قادرة حدا بقا يفوت عالمطبخ.”

بالإضافة إلى ذلك، فقد اختفت تقريباً المساحة الخاصة الحميمة في المنزل، فالكل موجود هنا في الوقت نفسه، “إذا بدك تتصلي أو تحكي شي برايفت مع حدا كتير صعب.” تقول مايا. “ما فيه مكان. دايما فيه حدا بالمطبخ، أو بالغرفة. ما فينا بقا نقعد بمكان نسكّره ويكون إلنا. بسبب وجود كل الأشخاص كل الوقت، مقارنة مع الأوقات التانية اللي ما فيه وجود لهالأشخاص كل الوقت.”

خلال الحجر، اضطرّ العديد من المستأجرين في غرف الطلاب إلى استئجار غرف بكاملها، لأن الاختلاط أصبح ممنوعاّ، ممّا أجبرهن\م على دفع إيجار لسرير إضافي أو أكثر كما تقول ميراي. 

خلق الحجر والجائحة معضلة جديدة للأفراد في العائلات أو المجتمعات المحافظة، بحيث أن العديد من النساء والكويريات\ين العزباوات اضطررن للعودة إلى بيت العائلة بعد فقدانهن العمل، ممّا ضيّق على حريّتهن السياسية عامة والاجتماعية والجسدية والجنسية خاصة

من جهة أخرى، يبدو أن هناك نقاط إيجابية للحجر، تطرّقت لها مايا وماريا، تتعلّق بتغيير نظرة العائلة إلى المسكن، عبر استبدال استخدام الصالون مثلاً من مكان للضيوف لا يُستخدم ويجب الإبقاء عليه بشكل محدّد، إلى مكان مُعاش. هكذا، رأت ماريا، بأنه وبسبب “عدم خروجنا من المنزل، بدأنا نشعر بأن كل غرفة في المنزل “جديدة” و”صرنا نكتشفها شوي شوي”. “نحن اعتبرنا انه البيت صار إلنا كله وهو الوضع اللي لازم يكون دايماً. يعني كل المكان بدنا نستخدمه متل ما نحن بدنا، كل العفش انحط بطريقة متل ما نحن منرتاح. كل الأشيا اللي منستخدمها بالمكان، حتى لو كانت تعتبر إنها ما بتنحط بالصالون: صار عنا “تريد ميل” بالصالون عشان نحن بدنا نعمل “سبور”، سجادة ما بتنحط بالعادة ومش لابقة صارت موجودة، والحرام (غطاء) والمخدة عالكنباية، وزدنا طاولة وعليها وراق الشغل تبع الأب. هيدا بالنسبة إلي الشي الوحيد اللي استفدنا منه.” 

على مستوى العلاقات، تقول ماريا بأن الحجر سمح لها ولزوجها بالتقرّب، وهي كانت تزوّجت حديثاً قبل الحجر، ولم تكن قد تعوّدت على زوجها بعد، فجاء الحجر إيجابياً إذ سمح لهما بمعرفة بعضهما أكثر والبقاء على تماس خلال فترات أطول من المعتاد. 

من جهة أخرى، يشعر العديد من الأزواج، خاصةً من كانوا في علاقة لفترة أطول، بأن الحجر أثّر سلبياً على العلاقة، أو بأنّه أظهر السلبي الموجود أصلاً..كما وتتضاعف أشكال الاستغلال داخل العلاقات الأحادية، سيّما وأن الشخصين يتواجدان مع بعضهما طوال الوقت. في عدّة نقاشات أجريتها مع نساء متزوجات، أعربن عن تفكيرهن بالطلاق، نتيجة للتعامل غير السوي للشريك. فالعنف الجسدي ليس الشيء الوحيد المؤذي في هذه المرحلة، بل العنف النفسي الذي يقوم على اختلال موازين القوى وشعور الشريك بأنه يستطيع الآن أن يستقوي على شريكته لأنها في مرحلة حرجة وتشعر بالضعف والهشاشة وهي غير قادرة على العمل أو الخروج من المنزل. وتصبح العلاقة في كثير من الأحيان سامّة، تشعر فيها النساء بالضعف والإحباط والتعب، فتُواجه بالاستسخاف والدونية وعدم رغبة الشريك بالتعبير والمشاركة. فبالإضافة إلى تفاقم الفروقات في موازين القوى خاصة بسبب فقدان عدد كبير من النساء لأعمالهن، زاد من العبء النفسي عليهن بسبب فقدانهن للاستقلالية الاقتصادية واستسهال إحساسهن بالدونية من قبل الشريك.
تضيّق الجائحة المجموعة التي يمكن أن نبني معها علاقة، أي علاقة. من علاقات الطلاب في الجامعة، حتى الجيران والأصحاب، حتى علاقات العمل، وبالتأكيد العلاقات العاطفية والجنسية. 

من كليب “بدي عيش” لهيفاء وهبي

فبالإضافة إلى صعوبات العيش  مع شخص واحد بشكل مستمرّ، بحيث تتضاعف المشاكل وتعود المشاكل القديمة إلى الظهور، يواجه الأفراد غير المرتبطين أزمة حياة عاطفية كانت تواجه تحدّيات اجتماعية وأصبحت اليوم تواجه بالإضافة لذلك، تحدّيات صحية. فالخوف من العدوى سيطر على العديد من غير المرتبطات\ين وألغى حياتهن\م العاطفية تماماً، أو أدّى إلى توجّههم نحو علاقة غير مفتوحة (مونوغامي) لا يريدونها. من جهة أخرى، طرحت الجائحة تطبيقات المواعدة كشكل وحيد أحياناً للقاء الأشخاص، لتشكيل صداقات أو للتعارف والعلاقات الجنسية والعاطفية. 

وهنا خلق الحجر والجائحة معضلة جديدة للأفراد في العائلات أو المجتمعات المحافظة، بحيث أن العديد من النساء والكويريات\ين العزباوات اضطررن للعودة إلى بيت العائلة بعد فقدانهن العمل، ممّا ضيّق على حريّتهن السياسية عامة والاجتماعية والجسدية والجنسية خاصة. من جهة أخرى، خلق الحجر معضلة التلاقي والتعرف، بحيث أغلقت جميع الأماكن التي كانت تشكّل أماكن اللقاء. وقد انعكس ذلك ازدياداً في اعتماد الأفراد على مواقع التلاقي، التي ازدادت أعداد مشاركيها بشكل كبير منذ بداية الجائحة وخطوات الحجر المختلفة. “نهار الأحد في التاسع والعشرين من آذار 2020، تمّ “مسح-سوايب” “تيندر” لثلاث مليار مرة، وهو أكثر ما سجّله التطبيق ليوم واحد منذ إطلاقه.  في المملكة المتحدة، ازدادت المحادثات 12% بين منتصف شباط وآخر آذار،”2  بيد أن العديد من النساء أعربت عن عدم شعورهن بالراحة على مواقع التواصل الاجتماعي لازدياد أعداد الرسائل الجنسية والتحرش عامّة، التي أصبحت كثيفة “أكثر من الأيام العادية” على تطبيقات واتساب وانستاغرام أو تويتر وفايسبوك.

لكن كيف نرى العالم، اعتمادا على هذه الملاحظات، في مرحلة ما-بعد-الحجر؟

من المستحيل ربّما أن نتوقّع ما سيجري لسببين أساسيين: أولاً لأن الأبحاث تقول بأن الجائحة لن تنتهي قبل 10-15 سنة، ولأن الفيروس يتغيّر ويتطوّر ولا معلومات أكيدة عن مدى تأثير اللقاحات حتى الآن، وثانياُ لأن الوضع في لبنان والمنطقة أشدّ هشاشة من الأماكن الأخرى، ممّا يعني بأنّنا لا ندري ما سيبقى من الواقع الذي نعرفه وما سيختفي وما سينشأ بعد الجائحة. أمّا وأنّنا قد ذكرنا استحالة توقّع ما سيأتي، يمكننا أن نستشفّ ممّا يجري اليوم، أنماطاً قد تتغيّر في المستقبل، منها معايير اختيار الشخص الذي يمكن الارتباط  به\ا أو الزواج منه\ا، في واقع يتطلّب العيش مع شخص واحد، أو مقاييس المسكن الذي نعيش فيه وحدنا أو مع عدة أشخاص. 

يطرح الحجر علينا سؤالاً جديداً في العلاقات التي نريد: لا “هل نريد أن نرتبط بهذا الشخص”، بل “هل نريد\نستطيع أن نُحجَر مع هذا الشخص؟” هل يمكننا أن نبقى في مكان واحد مع هذا الشخص لمدة طويلة؟

على مستوى التلاقي والتعارف، يبدو أن مكانين أساسيين أعطيا الأهمية الكبرى ضمن الحجر والتباعد الاجتماعي المفروض، الفضاء الرقمي المتمثّل بتطبيقات المواعدة، والأماكن العامة، كالكورنيش والحدائق العامة مهما قلّ عددها. فالتعارف يحصل على التطبيقات، واللقاءات الأولى في الأماكن العامة، بدلاً من المقاهي أو المطاعم أو البارات. 

من جهة أخرى، يثقل الحجر كاهل الأفراد على مستوى العلاقات الاجتماعية عامة، من أصدقاء ونشاطات اجتماعية كانت أسبوعية ربما واختفت. فتحلّ مواقع التواصل الاجتماعي مكان هذه اللقاءات، كزووم مثلاً أو جيتسي وغيرها، إلّا أنّها لا تعوّض عن الحاجة للقاء حقيقي. 

هكذا، تلعب تطبيقات المواعدة دوراً جديداً في التعرف بهدف خلق صداقات، وهو دور لم تكن تلعبه قبلاً، في الوصل بين أشخاص لديهم نفس الاهتمامات، أو يعيشون في حي واحد فيستطيعون اللقاء والعمل سوياً مثلاً. 

والنقطة الأصعب ربّما، هي تأُثير الجائحة على المسكن. وهي الأصعب لأن قدرة الأشخاص على تأمين مسكن أفضل محدودة جداً، خاصة ونحن نتكلّم عن واقع اقتصادي صعب أصلاً، انهار مع كورونا في العالم، وقبلها في لبنان. فالذي يجب أن يحصل الجميع عليه، قبل الكورونا وخلالها وبعدها، هو أولاً المسكن الآمن الصحي الذي يستطيع أن يأويها عامة وأن يقدّم لها الحماية من الأمراض والتوتر النفسي خلال الكورونا وبعدها. فقد أفصحت الجائحة عن أهمية المسكن على المستوى الجسدي بالطبع، لكن أيضاً على المستوى النفسي أيضاً. فالمساحة الواسعة، والضوء والقدرة على تهوئة المنزل والعزل من الصوت والضوء وفصل الغرف والمساحات لتأمين الخصوصية أمور تبدو اليوم في أول سلّم الأولويات. كما أن المساحة المشتركة في المنزل، من صالون أو غرفة جلوس، وشرفة، أصبحت تلعب دوراً أساسياً في تغيير المكان الذي نتواجد فيه من جهة، والسماح بفصل النشاطات الخاصة وتلك التي نتشارك بها مع باقي سكان المنزل. 

أخيراً، وبالذات بالنسبة للنساء اللواتي يعشن في لبنان، يأخذ الحجر مستوى مختلف، مع الانهيار الاقتصادي، وبالتالي، اختفاء شكل الحياة التي عرفناها قبل الحجر. “أفكّر دائماً بما بعد الحجر.” تقول ماريا. “عندما تنتهي الجائحة، هل سأتمكّن من الخروج إلى الأماكن التي اعتدتها؟ هل ستكون موجودة أصلاً؟ يعوّدنا النظام الرأسمالي على تقبّل ما تمّ تقديمه لنا…بأن نعيش في انهيار اقتصادي مستمرّ. وأسوأ شعور نمرّ به اليوم، هو عدم القدرة على تغيير هذا، أو حتى كيفية تخيّل الحياة خلال النموذج القادم من الحياة.” كما ركّزت العديد من النقاشات على “الشعور بالسجن”، خاصة بالنسبة للنساء، معبّرات عن  شعورٍ خانق. “ربّما أكون لا أخرج كثيراً في الأيام العادية، لكن هذا كان خياري. أمّا اليوم، فأنا مجبرة على عدم الخروج. وهذا يشعرني بالاختناق”

ربّما يكون الحجر قد عمل على تظهير وعينا بأن المكان هو أيضاً المسافة بين الأشخاص، والمساحة التي لا تتغيّر، لأن الإغلاق العام عنى أنّنا سنتواجد كل الوقت مع نفس الأشخاص، في نفس المكان. وربّما يعمل الحجر على تغيير نظرتنا للعلاقات عبر جعلها أكثر صحية، بمعنى أنّ الاستغلالات التي تمّ تظهيرها خلال الحجر، ربّما تجعلنا كنساء نفضّل صحتنا الجسدية والعقلية والنفسية، على علاقة سامّة استغلالية: “ميّة مرة عانس ولا مرّة نوبة قلق”. 

“أشعر بأن فهمنا للمكان عامة، والمعايير التي اعتدناها قد تغيّرت تماماً. فما كنّا نراه “أساسي” مثلاً، اكتشفنا أنه ليس كذلك. يبدو وكأنّنا نمحي ما تعلّمناه عن المكان والأشياء، ونتأقلم مع طريقة حياة جديدة، تجبرنا على اختبار المكان بشكل مختلف”، تقول ماريا، وهي تعكس ما يمكن أن نشعر به بالنسبة للمكان والعلاقات في آن معاً.

  1. https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC7313520/

    The wipe-clean esthetic of modernism can be partially attributed to tuberculosis. The modern architectural designs were inspired by an era of purity of form, strict geometries, modern materials, and a rejection of ornamentation. Modernist architects designed these curative environments as cleansed (physically and symbolically) from disease and pollution. Beyond their esthetic appeal, these features embodied modernist preoccupations with the healing effects of light, air, and nature. These buildings included large windows, balconies, flat surfaces that would not collect dust, and white paint, emphasizing the appearance of cleanliness (Budds, 2020; Chang, 2020). Against this background, the current health crisis should develop our built environment to increase the security layers that help to prevent the spread of infections and diseases. In this context, there are multiple areas of research needed regarding COVID-19.
  2. https://www.bbc.com/news/amp/business-52743454

    “Tinder users made 3 billion swipes worldwide on Sunday 29 March, the most the app has ever recorded in a single day. In the UK, daily conversations rose by 12% between mid-February and the end of March.”