بقلم ص. ج.
الصور: حمام العريس في الجليل – فلسطين، ثمانينات. نُشرت بتصريح من/بموافقة فوتو ستوديو الأمين 
ملاحظة: تم استخدم الصور لأسباب تعبيريية وذلك لعكس محتوى المقال.
هذا المقال من ملف ‘إنشالله بكرا’ – هيكل العدد هنا

كم هو فريد أن يتم قبولنا كأفراد لجوهر حقيقتنا وذاتنا، دون السعي وراء رغباتنا لرسم مستقبل لا يشبهنا، أن نكون في هذه المنظومة المجتمعية دون الشعور بالرفض والتمييز ضدنا فقط لأجل اختلافاتنا الفكرية وتوجهاتنا الجنسية.. الزواج هو عش للراحة، بناء لمستقبل مبهج مع من تحب وتختار كل حسب رغبته وما يريد. لكن هل الجميع يرغبون بهذا؟ وماذا عن الذين تزوجوا ولكنهم لم يجدو مستقبلهم كما توقعوا؟

ليس من المعقول أن نوصم ويتم وضعنا جميعا في إطار مستقبلي واحد رغم تعدد توجهاتنا واختياراتنا، هنالك من يرغبون بالزواج ويجدونه ملجأ لراحتهم، وهنالك من تزوج وخاب ظنه، وهنالك من لا يريد أياً من ذلك، ولكن… هل فعلاً يسمح لنا بتحديد مصيرنا دون تدخل المجتمع المحيط بذلك؟

بعد محاولات والدة أحد أصدقائي المثليين بكافة الطرق للضغط عليه من أجل أن يتزوج إحدى أقاربه، قد اتخذت والدته منحنى الضغط الأكبر وهو التلاعب العاطفي: “إذا ما بتتزوج بنت خالتك لا انت ابني ولا بعرفك، شو بدك الناس يحكوا علينا صار عمرك ثلاثين سنة وانت لسه ما تزوجت، بدك تكبر لحالك؟” وقد يكون أشهر جملة مستخدمة هي: “بدي أشوف ولادك وأتطمن عليك قبل ما أموت”. وغيرها الكثير من العبارات والمخاوف النابعة من المنظومة القامعة التي نتواجد في إطارها والتي تحد من قدرتنا على حرية الاختيار، كالدين والعادات والتقاليد التي تحد نظرتها لمفهوم العلاقة بالزواج فقط، أيضاً من خوف الأهالي على أبنائهم من عدم قدرتهم على تكوين عائلة ومستقبل مستقر مما يؤدي لكثير من الأحيان ببعض الأهالي للتلاعب بهم عاطفياً بكافة الطرق المتاحة من أجل الإقدام على شيء لا يرغبون به أو مستعدين أو قادرين على فعله. في هذا المقال سأحاول تفكيك الابتزاز العاطفي الممارس من قبل الأهل على الأبناء لدفعهم نحو الزواج، والمتمحور حول الخوف من المستقبل والوحدة.

مؤسف حال الكثير ممن حولنا الذين أصبحوا ضحايا تسلط عائلاتهم ومجتمعاتهم في إيقاعهم في فخ التلاعب العاطفي تحت مسمى: “الخوف من مستقبل تكون فيه وحيدا جالسا على مقعد وعكازك بجانبك، لا أحد معك ولا يوجد لديك زوج/ة ولا أطفال ينفعوك عند كِبرك”. لهو مؤسف أن الخوف من المستقبل والوحدة قد بات هاجساً عند معظم المثليين/المثليات في وطننا العربي. رسم الأباء والأمهات لأبنائهم هذا الشبح الذي يسمى “أن تكبر وحيداً” وقد صدقه الكثير خوفاً ورهبة، وباتو في علاقات لا تشبههم/هن ولا تشبه حقيقتهم/هن وبعيدة كل البعد عن ميولهم/هن فقط لخوفهم الهائل من هذا الشعور المرعب الذي زرعه فينا الأهالي والمجتمع حتى أنه قد يمنع بعضنا من النوم ليلاً، أو قد يقلقه طيلة أيام حياته… ليس بالشيء الهين، أن يتم إقناعك بأنك إن لم تسر بخارطة الطريق للمستقبل التي رسمها المجتمع لك فإنك ستعيش حياتك كما لو كانت غرفة متر بمتر باردة، لا تطالها أشعة الشمس.


ولكن.. هل سيحمينا الزواج من الوحدة حقاً؟ دار حوار بيني وبين ح.ع. 29 سنة، غيري الجنس ومتزوج منذ خمس سنوات: “أصبح هناك برود وملل، تزوجنا عن حب لكن للأسف الحب وحده غير كاف، الزواج لا يعني تسلية فقط، الزواج إذا لم يكن به تفاهم وتناغم فكري وثقافي واجتماعي سيجعلك تشعر بالوحدة أكثر مما تشعر عندما تكون لوحدك”.

وماذا عن كبار السن الذين يتركهم أبناؤهم وحيدين في دور العجزة؟ أولئك الأفراد الذين تخلى عنهم أبنائهم؟ وأولئك العقيمين الذين ليس لديهم قدرة على الإنجاب؟ والكثير الكثير من الاحتمالات الأخرى التي قد تجعل من المستقبل أشبه بشبح بنظر جميع أفراد المجتمع بغض النظر عن توجهاتهم الجنسية وحتى لو كانوا متزوجين/ات.

أم ج.، والدة متقبلة لابنها المثلي: “مخاوف الأهالي نابعة من نمط حياتهم واللي تعودو وكبروا عليه. نمط حياتهم مختلف اجتماعيا وفكريا وثقافيا عن المثليين بشكل خاص وعن الغيريين بشكل عام كونهم أيضا مختلفين كلياً عن أهاليهم بذلك أيضا”

الصور: حمام العريس في الجليل – فلسطين، ثمانينات. نُشرت بتصريح من/بموافقة فوتو ستوديو الأمين. ملاحظة: تم استخدم الصور لأسباب تعبيريية وذلك لعكس محتوى المقال. 

هل هذه المخاوف منطقية وهل فعلا سنصبح وحيدين إن لم نتزوج؟ التقيت بـ ع.أ. 35 سنة، مثلي الجنس، غير متزوج. في سؤاله عن شعوره العام بالرضا عن نفسه وحياته بعد ممارسة الأهل ومجتمع العمل الضغط عليه للزواج لسنوات عدة: “فلوسي لإلي ومسؤوليات ما في وبلف العالم وبشوف وبتعرف على كتير صحاب. مش مضطر أتزوج عشان أرضي أي حد حتى لو كانو أهلي. ولو تزوجت شو حيضيفلي الزواج وشو الفرق اللي رح يعملو بحياتي؟ بصاحب براحتي دون ضغوطات اجتماعية ومبسوط بحياتي”.

مع ذلك ما يزال الأهل يشعرون بقلق حيال عدم زواج أبنائهم وبناتهم، ولفهم مصدر هذه المخاوف تحدثت إلى أم ج.، والدة متقبلة لابنها المثلي: “مخاوف الأهالي نابعة من نمط حياتهم واللي تعودو وكبروا عليه. نمط حياتهم مختلف اجتماعيا وفكريا وثقافيا عن المثليين بشكل خاص وعن الغيريين بشكل عام كونهم أيضا مختلفين كلياً عن أهاليهم بذلك أيضا”. تبقى المنظومة المجتمعية مشجعة للزواج ومصورة له على أنه الحل المثالي نحو الاستقرار، وبهذا فمخاوف أهلنا شرعية لكن طريقة التعبير عنها هي الإشكالية…


الخاتمة

من هو المخطيء في إعدادات خطط المستقبل بين ما نريد فعله حقاً و يشبهنا، وبين ما لا نريد فعله ولا يشبهنا لكن نُجبر على فعله أحياناً؟ أهالينا ومخاوفهم؟ أم عشرات السنوات من العيش تحت حكم منظومة الدين والعادات والتقاليد ونظرتهم الضيقة للعلاقات التي تخشى أي اختلاف؟

هنالك العديد من الدول التي تبيح زواج المثليين قانونياً. ماذا سيكون رد فعل أهالينا عند سماعهم عن استقرار علاقات الزواج المثلية؟ هل من الممكن تغيير خوفهم المفرط علينا كأبناء من المستقبل والوحدة إن عرفوا عن التبني وأن بإمكان الفرد منا أن يحظى بالعديد من الأطفال؟ هل سيطمأنهم أننا لن نكبر وحيدين، وبأننا لن نموت على سرير بارد دون أن يسمع بعويلنا أحد؟ 

ماذا عن مرارة اليوم الحاضر بالنسبة للكثير ممن أعرفهم، والغد الذي لم يكن لديهم فعلاً حرية وترف اختياره، على الرغم من اختلاف ظروفهم، لكنهم جميعاً التقو بهذا النقطة السوداء من حياتهم، وعليهم التعايش مع هذه المأساة يومياً. كيف لنا التخلص من شبح الغد وهذه الفكرة السائدة عند الأهالي للضغط على أبنائهم للدخول في علاقات هي من وجهة نظرهم صحية وسليمة؟ مخيف أن المستقبل وكلمة “بكرة” هي متاحة لنا كأفراد إلى حد معين ثم ما يلبث بعضنا بالوقوع في حفرة عميقة من العادات والتقاليد، يصعب على بعضنا الخروج منها. 

أحلم بغد يتم قبولنا فيه كأفراد لجوهر حقيقتنا وذاتنا، وأن نكون جزء من المستقبل والمنظومة المجتمعية دون الشعور بالرفض والتمييز ضدنا فقط لأجل اختلافاتنا الفكرية وتوجهاتنا الجنسية… دون أن نوصم ونحبس جميعا في إطار ضيق رغم تعدد توجهاتنا واختياراتنا.