بقلم لارا بيلون
ترجمة نوارا علي
تصوير خكايدان (من عائلة خكيدان المختارة؛ صبري المنصوري وكليمان بيرو وفاني إتيلوبي)
تصميم لينا أ.
هذا المقال من ملف ‘إنشالله بكرا’ – هيكل العدد هنا

ذات ليلة في سوسة في تونس، وجد الشاذلي نفسه في شقة مكتظة بالغرباء، كان للتو قد أنهى عامه الدراسي الأول في الجامعة وكان مدعوًا من قبل صديقه المثلي الوحيد إلى حفلة عيد ميلاد، عندما دخل الغرفة قوبل بنظرات فضولية من الجميع، كونه الشخص الجديد. فجأة دخل الغرفة فتى عيد الميلاد مرتديًا فستان زفاف و”أمه” تبكي من الفرح بجانبه، حينها انهالت الاحتفالات من الحشد عند دخول “العروس” في مشهد الزفاف الوهمي، التقى الشاذلي بالعديد من أفراد مجتمع الميم في تلك الليلة ومنهم شيماء التي ستصبح أخته المستقبلية المختارة. “البشر كقطع الليغو المفردة؛ بمجرد ما أن يتآلف شخصان سيقرران المضي في بناء العلاقة وأنا وشيماء ألفنا بعضنا”، لم يكن الشاذلي يعلم أن حفلة عيد الميلاد الأولى للمثليين التي حضرها ستكون بداية عثوره على عائلته المختارة المستقبلية.

تتكون العائلة المختارة من العلاقات بين الأفراد الذين يقدمون الدعم غير المشروط لبعضهم/ن البعض بسبب غياب ذلك في العائلات البيولوجية، كونك من مجتمع الميم في  العديد من البلدان يمنحك تجربة صعبة لأن المثلية الجنسية جريمة في العديد من دول المنطقة وغير مقبولة اجتماعياً من قبل معظم الناس، عندما يعبر الأفراد عن كونهم مثليين/ات أو يتم فضحهم أمام عائلاتهم، يُنبذ العديد منهم/ن من قبل أسرهم مما يجعلهم يشعرون بالوحدة، يعاني شباب مجتمع الميم عاطفيًا وافتصاديًا عند إبعاد أنفسهم/ن عن عائلاتهم البيولوجية مما يجعل العائلات المختارة نظام دعم يمكنهم الاعتماد عليه.

الدعم المقدم من العائلات المختارة يعد أمرًا بالغ الأهمية في تطوير روابط قوية بين أفراد الأسرة الذين يعيشون في بيئات معادية، وتتكون ديناميات العائلات المختارة من الأمهات والبنات والأخوات وفي بعض الحالات الآباء، هذه العائلات في الغالب أمومية لأن شباب مجتمع الميم يبحثون عن شخصيات غير إقصائية محل الوالدين مثل الأمهات، إن وجود الأم مختارة بدلاً من الأب المختار يسمح لشباب مجتمع الميم بالهروب من صدمات طفولتهم النابعة من آبائهم الغاضبين والغائبين، الأم تكون عماد الأسرة وتميل إلى أن تكون من جيل أسبق لبناتها مما يسمح لها بمشاركة إرشاداتها وتجاربها الحياتية، وتساعد العائلات المختارة بعضها البعض بطرق مختلفة بدءًا من نصائح للعلاقات وانتهاءً باختيار شعر مستعار مثالي.

“العائلات المختارة لا ترتكز على الأصل الجغرافي للفرد ولكن على المجتمعات التي ينتمون إليها، يمكن اختيار أفراد الأسرة من مختلف البلدان والثقافات وهو أمر بالغ الأهمية في عالم الهجرة المستمرة،

الشاذلي وأخواته شيماء وحسام ينظرون إلى “والدتهم” حمدي كقدوة يحتذى بها، تستذكر شيماء لقائها الأول مع حمدي في ورشة عمل للمنظمات غير الحكومية في تونس حيث حاول حمدي التعامل مع شيماء لكنها لم تستجب لاسمها الذكري، بشكل غير متوقع صاح حمدي “شيماء!” عبر الغرفة واستدارت هي فورًا وأحسّت بالارتباط بحمدي، كان هذا الاجتماع تجربة مهمة لأنه كان بمثابة تسمية أحد الوالدين لطفلتهما، استمرت هي باستخدام “شيماء” كاسم مسرحي لعروض الدراق/الجر وفي النهاية قابل الشاذلي حمدي وطلب منه أن يكون “والدته” أيضًا، وأصبحت العلاقة بين الشاذلي وحمدي والشيماء أقوى حيث مروا بمواقف أدركوا فيها أهمية اتحادهم.

استمر حمدي بعدها ليتبنى حسام، ونشأ كل من حمدي وحسام في مدينة تونس القديمة حيث يمكن أن تكون بيئة قاسية لشباب مجتمع الميم لأنهم دائمًا ما كانوا على أهبة الاستعداد في حال تم فضحهم. في عام 2011 التقى حسام بحمدي في تجمع للمنظمات غير الحكومية وشعر على الفور بالارتياح لعثوره على جماعته وكان حسام ممتنًا لمقابلة حمدي في هذه السن المبكرة، “كونك مراهقًا مثليًا يجعلك تعتقد أن هناك مستقبلًا أسودًا أمامك، لكن رؤية حمدي بنجاحه وصدقه في هويته جعلني أعتقد أنني أستطيع أن أفعل ذلك أيضًا.”يستطيع أفراد مجتمع الميم من خلال العائلة المختارة التواصل مع الآخرين الذين يشاركون خلفيات مماثلة مدركين أنهم ليسوا وحدهم في كفاحهم.

حمدي الذي يشار إليه عادةً باسم “ماماسيتا” أكبر من بناته بعشرين عامًا ولديه مسيرة مهنية ناجحة ومستقرة، يعتقد حمدي أن هذا الاستقرار يجذب الشباب الذين يفتقرون إلى الحب غير المشروط من عائلاتهم البيولوجية، “لا أعتقد أبدًا أنني سأكون والدًا، يحدث أن الأطفال ينجذبون نحوي بشكل عفوي للغاية وأرى فيهم أشياء تذكرني بنفسي عندما كنت في مثل سنهم.” هذّب حمدي غريزة الأمومة عنده إلهامًا من والده المثلي مارتن (في عائلته المختارة)، “دائمًا ما أخبرني والدي المثلي أنني كنت كهديّة له في شيخوخته، هذا عوضني عن الحب غير المشروط الذي لم أحصل عليه من والدي البيولوجي، وأردت أن أكون قادرًا على إعطاء هذا النوع من الحب للآخرين”، كما يشعر حمدي بالامتنان للحب الذي يتلقاه من أبنائه حيث يدعمونه أيضًا عندما يتعامل مع مشاكله الخاصة، لا ينبغي تصور العائلات المختارة على أنها شبكة علاقات عمودية بل علاقات أفقية.

تصوير خكايدان (من عائلة خكيدان المختارة؛ صبري المنصوري وكليمان بيرو وفاني إتيلوبي)

يتأمل حمدي في العلاقات التي طورها مع أطفاله على مر السنين ويفكر في لقائه الأول بشيماء، “لقد رأيت شيئًا مميزًا في شيماء وكان ذلك أكبر من أن يوصف، شعرت على الفور بالارتباط بها. في اللغة العربية تعني كلمة شيماء شخصًا من الدرجة العالية وهذا يصف شخصيتها تمامًا”، ويوضح حمدي أن التسمية عملية مهمة لأنها يمكن أن تحل محل الأسماء أو الألقاب المعينة المرتبطة بصدمات الماضي، تذمّ معظم المجتمعات أنوثة الرجال وتضع استثناءات للذكور ليكونوا قاسين دائمًا مما يولد الذكورة السامة داخل مجتمعات بأكملها، وتتم شيطنة الرجال المثليين من خلال الألقاب المحطة بسبب جانبهم الأنثوي الأنعم مما يجعلهم يكبرون على كرههم لهذا الجانب من أنفسهم، وتسمح التسمية لأفراد مجتمع الميم باحتضان هويتهم بالكامل بما في ذلك جوانبهم الأكثر أنوثة، في العائلات المختارة يمكن إعطاء الأسماء من قبل أفراد الأسرة المقربين أو حتى الأقارب البعيدين، أما على نطاق أوسع سمحت التسمية لمجتمع الميم بتأكيد ملكيته للألقاب السلبية (الاستصلاح) مما يُشعر الأفراد بالتحرر من صدماتهم السابقة، ويمكن رؤية هذه الملكية بكلمة “كوير” والتي كانت تُستخدم ذات مرة للتقليل من شأن الأشخاص حتى أكد مجتمع الميم على ملكيته للكلمة.

العائلات المختارة لا ترتكز على الأصل الجغرافي للفرد ولكن على المجتمعات التي ينتمون إليها، يمكن اختيار أفراد الأسرة من مختلف البلدان والثقافات وهو أمر بالغ الأهمية في عالم الهجرة المستمرة، يشرح الشاذلي أن “هناك أناس يفرون من الاضطهاد الذي يتصاعد تجاه أفراد مجتمع الميم ويمكن أن يتسبب هذا في فصل العائلات المختارة ولكنه يسمح أيضًا للعائلات بتطوير علاقات تتجاوز الأوطان”، هذه الروابط ضرورية لطالبي اللجوء من مجتمع الميم المعرضين للخطر في المعسكرات والأنظمة القضائية.

شقيقة الشاذلي إيهاب تأتي من شجرة عائلة أخرى وعاشت مع الشاذلي كطالبة لجوء في بلجيكا لمدة عام واحد، طلبت إيهاب اللجوء بعد رفضها من قبل عائلتها البيولوجية. “قررت المغادرة لأن أمي وأبي اعتدوا عليّ، ما زلت أحب عائلتي البيولوجية لكن عائلتي التي اخترتها مميزة جدًا بالنسبة لي، بدونهم ربما كنت سأعيش في مخيم قد يكون غير آمن لأفراد مجتمع الميم بسبب رهاب المثلية.” يعتبر دعم الشاذلي لإيهاب مثالاً هامًا على كيف تساعد العائلة المختارة بعضها البعض في المواقف المعيشية الصعبة.

عندما يتم نبذ أفراد مجتمع الميم من قبل أسرهم البيولوجية، يصبح من المهم أن يتواصلوا مع الآخرين الذين يعانون نفس المصاعب، الأسرة المختارة لها القدرة على جعل الأشخاص يعيدون النظر في إيذاء أنفسهم أو الانتحار لأنهم يعلمون أن هذه الأفعال ستؤثر سلبًا على أفراد الأسرة المختارة، تشرح شيماء “إن فقدان أحد أفراد عائلتي المختارة سيؤثر علي بقدر فقدان أحد أفراد عائلتي البيولوجية، يمكن أن تكون عائلتنا المختارة بنفس القوة بل أقوى من عائلاتنا البيولوجية إذا رسخنا قلوبنا وعقولنا لها.”

تخلق العائلات المختارة روابط غير قابلة للكسر تدوم في المستقبل، الشاذلي وحمدي وحسام وشيماء وإيهاب جميعهم يتصورون مستقبلهم مع عائلاتهم المختارة ويخططون دائمًا لإظهار الدعم لبعضهم البعض، يستذكر حسام دائمًا تشجيع الشاذلي له في أول عرض كوميدي له ويعرف أن أفراد عائلته سيستمرون في حضور عروضه المستقبلية. تتذكر شيماء عائلتها المختارة التي شجعتها في أول عرض دراق/الجر : “وجود عائلتي هناك أسعد قلبي حقًا، لقد استمروا في تشجيعي خلال تقدمي في مسيرتي في الدراق”، يعرف حمدي أن ابنتيه ستكونان حوله عندما يتقدم في السن تمامًا كما كان هناك من أجل مارتن، يمكن للشيخوخة أن تكون أمرًا مخيفًا لأفراد مجتمع الميم الذين يعتقدون أنهم سيكبرون بمفردهم لأن أسرهم البيولوجية قد رفضتهم وليس لديهم أطفال بيولوجيين، ومع ذلك توفر العائلات المختارة مستقبلًا مليئًا بالأمل لأنها تشمل دورة الحياة الكاملة مع رعاية الأفراد لبعضهم البعض خلال مراحل الحياة المختلفة.

يأمل حسام أن في المستقبل”سيوجد المزيد من العائلات المختارة خاصة في المناطق الكابتة لأنها تخلق هالة من اللطف، نحن نعيش في بلد غير لطيف تجاهنا لذلك نقع في نمط يخلو من اللطف مع بعضنا البعض في مجتمع الميم”. مع وجود المزيد من العائلات المختارة، سيكون المستقبل أكثر إشراقًا، إن بناء الثقة بين أولئك الذين يتشاركون تجارب مشتركة في التعرض للتمييز وعدم القبول أمر بالغ الأهمية في تطويرعلاقات تطول مدى الحياة، ستستمر هذه الروابط في المستقبل وتتطور بناءً على الخبرات المشتركة، ففي النهاية بالنسبة للشاذلي: “عائلتي المختارة هي قطع الليغو التي كنت فاقدها لفترة طويلة وما زلت أعثر على قطع جديدة مع استمرار الحياة.”