in English

بقلم علا الحاج حسن
العمل الفني: لينا أ
هذه المقالة حصيلة ورشة عمل المجلة للكتابة

رجال في الشمس للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني هي قصة ثلاثة لاجئين يقصدون الكويت من العراق بحثاً عن لقمة العيش. الرواية، المنشورة عام 1963، مشبعة بتفاصيل رمزية، ولكنها في الآن ذاته محبوكة بواقعية فائقة، وكذلك الفيلم المبني عليها، وقد أنتجته المؤسسة العامة للسينما في سوريا عام 1972 بعنوان “المخدوعون” للمخرج المصري توفيق صالح، ملتزماً بالرواية إلى درجة عالية، باستثناء بعض الفروقات التي سأوضحها في مراجعتي هذه. 

يجسّد الشخوص ثلاثة أجيال تعاني من استمرار النكبة في حياتها. أما السائق الذي يهربهم في خزّان سيّارته، أبو الخيزران، فهو يمثل الزعماء الفلسطينيين والعرب، الذين ينعمون نسبياً بمستوى من الرخاء بينما ينتفعون على ظهور اللاجئين. ويحدث أن شظية قنبلة صهيونية تسببت في إخصاء أبو الخيزران عام 1948. وهذه الجزئية غالباً ما تُقرأ كمجاز لحالة عجز اجتماعي-سياسي يقود الشباب الفلسطيني إلى حتفه، ولكنني أسعى إلى تفكيكها ووضعها ضمن إطار أوسع من خلال قراءة حثيثة للرواية والفيلم.

رجال…بلا أب

بدايةً من العنوان، يقدّم كنفاني شخوص روايته بصفتهم رجالاً في المقام الأول؛ نتعرف إليهم واحداً تلو الآخر وبحسب ترتيبهم العمريّ. لكل رجل فصل خاص يحمل اسمه ويحكي قصّته ويشرح موقعه بالنسبة إلى منظومة العائلة. أما الفيلم، فيجرّد الشخوص من هذا التصنيف ويعرّفهم كمجرّد مخدوعين. ويبدأ الفيلم بظهور العنوان (المخدوعون) على خلفية صحراء قاحلة فيها هيكل عظمي ملقى على الرمال، ثم تظهر هذه الأبيات: 


وأبي قال مرة:

الذي ما له وطن
ماله في الثرى ضريح
.. ونهاني عن السفر !

هذا الاقتباس، من قصيدة “أبي” لمحمود درويش، ينذر بمصير الشخوص حتى قبل بدء رحلتهم ويطلق على مشروعهم حكماً مسبقاً بالفشل من جهة، كما يُنظِّر عليهم من منبر أبوي من جهة أُخرى. فالفيلم إذاً لا يهيئنا للتعرف إلى رجال في الشمس بل إلى مخدوعين ضالّين عن نصيحة الأب. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: أي أب ذاك الذي كان يمكن أن ينصح هؤلاء الرجال/المخدوعين؟ فأبو قيس المُسنّ هو نفسه في موقع الأب وهو الذي ارتأى المجازفة لتأمين مستقبل صغاره. أما أسعد فهو يتيم، ولديه عم يدينه أجرة الرحلة من عمّان إلى بغداد، فقط لرغبته في تزويجه من ابنته ندى. وفي الرواية، تتجسد خواطر أسعد حول الموضوع كالتالي؛

من الذي قال له إنه يريد أن يتزوج ندى؟ لمجرد أن أباه قرأ معه الفاتحة حين ولد هو وهي في يوم واحد؟ إن عمه يعتبر ذلك قدراً (…) من قال له أنه يريد أن يتزوج أبداً؟ وها هو الآن يذكره مرة أخرى، يريد أن يشتريه لابنته مثلما يشترى كيس روث للحقل، شدّ على النقود في جيبه وتحفّز في مكانه..

نستطيع من هذا النص أن نلمس ثورة أسعد على سلطة الأب، إضافةً إلى تمرده على العادات والتقاليد والثقافة القَدَريّة التي يمثلها عمّه، كما يميل نحو رفض مؤسسة الزواج من أساسها. ويعيد الفيلم توزيع هذه الأفكار بوضعها على لسان أسعد؛ يقولها أمام أخوه الأكبر -وهي شخصية غير موجودة في الرواية- ويجيب:

خليك هون يا أسعد، هون محلّك ما تهربش، ما تهربش يخوي، كمّل الطريق اللي مشيناه سوا. القضية بدها كتير (…) هالمشاكل كلها مش رح تنحلّ من هناك. أي مشكلة بالعالم ما بتنحلّش إلا إذا الواحد قرّب عليها، مش بعّد عنها، مش هرب منها.

شخصية الأخ المقحمة في الفيلم تجسد الإديولوجيا المُعارضة لهجرة اللاجئ من حيث المبدأ وتراها على أنها هرب، وذلك في اتساق مع توجه الفيلم الذي يرى الشخوص كمُهرَّبين مخدوعين. كما يلعب الأخ دوراً في فرض هيمنة الأب وممارسة وصايته على أسعد؛ ينظّر عليه، يمسك بيده أثناء الحديث، ثم يلحق به عندما ينهض واضعاً يده على كتفه.  

أما مروان، فقد قرر والده الزواج من شفيقة والسكن معها في بيتها ذو السقف الاسمنتي، تاركاً إياه وأمه وإخوته ومخلصاً نفسه من واجباته نحوهم، والتي أصبحت ملقاة على عاتق مروان في ظل توقف أخيه عن إرسال النقود من الكويت بعد زواجه أيضاً. ولا ينزاح الثقل عن صدر مروان إلا عند كتابة رسالة إلى والدته يصف فيها أباه “بأنه مجرد كلب منحط”. هكذا يتمرد مروان على سلطة الأب، ولا يحذف هذا التمرد، “ليس لأن أمه تتشائم من الكلمات المشطوبة فقط، بل لأنه كان لا يريد ذلك أيضاً، وببساطة”؛ هذه الجزئية مغيبة عن الفيلم، حيث يعرض محتوى الرسالة بصوت مروان مستهلاً بـ “عملة أبي عملة وسخة”، دون الإيحاء بالقوة التي اكتسبها من فعل البوح وكسر صورة الأب.  

ويجدر بالذكر هنا أن شفيقة، زوجة أبو مروان الجديدة، كانت قد فقدت ساقها أثناء قصف يافا، وهي ثاني شخصية يتجسد فيها البتر كمجاز للفقد؛ لكن بتر ساقها، بخلاف إخصاء أبو الخيزران، لا يترتب عليه تبعات أخلاقية أو خيارات حياتية مشبوهة؛ مشكلتها الوحيدة، من وجهة نظر أبيها، هي عدم رغبة الرجال الزواج منها. 

القائد الخصيّ

أما أبو الخيزران فيشكل إخصاؤه نقطة تحول في بوصلته الأخلاقية، فقد كان مجاهداً عندما داس على قنبلة تسببت في إخصائه عام 1948، ليصبح مهرّباً عبر الحدود العراقية-الكويتية. نتعرّف إلى فلسفته قبل أن نعرف بإخصائه: “القرش يأتي أولاً، ثم الأخلاق”. وبعد أن نعرف، يصبح جشعه مطروحاً كحاجة نفسية وليس نهج فكري؛ عندما يسأله أسعد عن سبب عمله في التهريب، يجيب بعد محاولة إنكار: “أقول لك الحقيقة؟ إنني أريد مزيداً من النقود..مزيداً من النقود..مزيداً من النقود”. ويمكن أن نقرأ اهتمامه بالنقود كهوس قضيبي، يحاول التعويض به عن رجولته المفقودة، وهذا يتوضّح أكثر في تسلسل أفكاره عند استذكار لحظة إخصائه؛

كانت، ثمة، إمرأة تساعد الأطباء. كلما يتذكر ذلك يعبق وجهه بالخجل.. ثم ماذا نفعتك الوطنية؟ لقد صرفت حياتك مغامراً، وها أنت ذا أعجز من أن تنام إلى جانب إمرأة! وما الذي أفدته؟ ليكسّر الفخار بعضه. أنا لست أريد الآن إلا مزيداً من النقود..مزيداً من النقود.

أما حادثة الإخصاء نفسها فندركها في الرواية في سياق سؤال عفوي يطرحه أسعد: “قل لي يا أبا الخيزران…ألم تتزوج أبداً؟” ليغوص الأخير في أفكاره بينما يشتعل الألم بين فخذيه ويتخيّل ساقيه مربوطتين إلى حمالتين، وينأى عن الإجابة. أما في الفيلم، فيأتي سؤال أسعد هذا السؤال في إطار أدقّ، فيقول أسعد: “حطينا مصيرنا بإيدك (…) أنت قائدنا، يعني اعتمدنا عليك زيّ اللي بعتمد على، كيف بدي أقللك، أنت متجوّز؟”. وهذه الصياغة متمحورة حول الأبوية التي تبدو أساسية في معالجة المخرج للنص، فالقائد هو الأب، والأب هو القائد، والسؤال عن الزواج هنا مفتاح للحديث عن الشرعية ومدى تحمل المسؤولية. 

ويتعامل الفيلم مع أبو الخيزران أيضاً وكأنه لم يجد أباً ينهاه عن السفر بحسب تعبير درويش، إذ يتخلل شريط ذكرياته محادثة مع صديق -وهي شخصية غير موجودة في الرواية- يخاطبه بعد حادثة الإخصاء قائلاً “هو الهروب بيحل المشكلة يا أبو الخيزران؟ أبدأ، ما في مشكلة بالدنيا بيحلّها الهروب”، وليس واضحاً إن كان الهروب المقصود هنا هو توجه أبو الخيزران للعمل في التهريب، أم أنه كما جاء في الرواية، هروبه من المستشفى قبل شفائه نهائياً، والتي تجسّد حالة إنكار، أو بتعبير أدق حالة رفض، إذ كان النصّ حريصاً على التمييز بينهما: “أتراه لم يقبل أم إنه كان عاجزاً عن القبول؟ منذ اللحظات الأولى كان قد قرر أن لا يقبل”، وهذا يعطيه درجة من الفاعليّة سلبه إياها الفيلم.

إن هذه الشخصية المُضافة، كشخصية أخو أسعد، هي وسيلة لتوزيع الأفكار التي يقدمها النصّ ضمن مونولوغات، ولكنها تضيف أيضاً مستوى من الوصاية؛ فصديق أبو الخيزران يبدأ كلامه على شاشة معتمة، ثم ينقلنا من الظلمة إلى النور بإشعال قنديل، ليعود أبو الخيزران ويركله بعد أن يقول “وشو استفدنا؟ هاي ضاعت الرجولة وضاع الوطن وراح كل إشي”، بصوت مهزوز، وأداء يوحي بالضعف، وهي ليست بالضرورة الحالة التي تصلنا من سرد الراوي؛ “عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يتقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيّع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن”

بعكس الفيلم، الذي يعكس إخصاء أبو الخيزران في هالة من اليأس، فإن الرواية تفتح مجالاً لقراءة هذه الجزئية بنبرة غضب أو ربما تهكم، وهنا يلعب العامل الزمني دوراً مهماً، فالفيلم يأخذنا للحالة النفسية لأبو الخيزران مباشرةً بعد الإخصاء، بينما تعطي الرواية نافذة زمنية طويلة تفصل بين الشخصية وما حدث لها. لذا، فإن الإخصاء في الفيلم يتجسّد كضرر جانبي ضمن أضرار فقد الوطن، بينما تطرح الرواية هذا الإخصاء كثمن إضافي دفعه أبو الخيزران، وتضعه في مكانة تخوّله بالتفاوض مع الأمر الواقع. 

ومن أهم معالم لحظة الإخصاء نفسها ضياع صوت أبو الخيزران في حلقه، وصراخه “لا…الموت أفضل” رداً على الطبيب الذي كان يقف فوق رأسه ويكمم فمه أثناء العملية، وهنا نستشفّ غضبه  حيال أبويّة السلطة الطبية، “إنهم لا يعرفون شيئاً ثم يتنطحون لتعليم الناس كل شيء”. ومن الملفت أن حبكة الرواية والفيلم تستحضر ومضات الإخصاء أثناء قيادة أبو الخيزران للسيارة، إذ يتداخل الضوء الذي كان فوق رأسه في المستشفى  مع أشعة الشمس التي تصعّب عليه الرؤيا في الصحراء؛ إذ تنقلب الموازين ويصبح أبو الخيزران في موضع السيطرة، كما كان الطبيب سابقاً، فهو مدّعي المعرفة بمصلحة الرجال في الخزان وهو من يقف فوق رؤوسهم ويكتم أنفاسهم.

لقطات من “المخدوعون” – 1972

ويأتي ذكر الموت في الفيلم أثناء الاتفاق على السفر، فعندما يقول أبو قيس، “يا منعيش سوا يا منموت سوا”، يرد عليه أبو الخيزران: “أنا السواق وبتحكي عن الموت يا زلمة؟ لازم نحط ثقتك فيّ أنا القائد. بدك تعتمد عليّ وما تحكيش عن الموت ولا كلمة”، وهذه الجزئية غير موجودة في الرواية، بل تخدم أجندة الفيلم في تصوير الشخوص كمخدوعين. 

فكرة الموت هنا أساسية؛ فلو مات أبو الخيزران بدلاً من إخصائه، لم يكن ليقود الفلسطينيين الثلاثة إلى موتهم، خصوصاً وأن السبب المباشر لموتهم هو مماطلة موظفي الحدود الكويتية لأبو الخيزران على خلفية إشاعة سمعوها عن نشاطه الجنسي مع راقصة اسمها كوكب، وربما لو أن مماطلتهم أتت في أي سياق مختلف ولم توقظ التروما الشخصية لأبو الخيزران لتمكن من وضع حدٍ لها قبل فوات الأوان.

لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟…” 

لعل هذا السؤال هو الاقتباس الأشهر من الرواية، ولكن اهتمامي به نابع من كونه على لسان أبو الخيزران؛ فلو أن السؤال هذا هو فعلاً العبرة النهائية من القصة، أو المجاز الأخير لعبثية الموت المجاني، فكان من الأجدر أن يكون على لسان الراوي، وإن كان لا بد من وضعه على لسان أبو الخيزران فليكن على الأقل لحظة اكتشافه الجثث الثلاث، لا لحظة انتهائه من سرقة ممتلكاتها بعد رميها على حافة الطريق. في هذا السياق، يكشف سؤال أبو الخيزران الفرق بينه وبين الرجال الثلاثة؛ فهو لا يستطيع أن يستوعب موتهم الصامت بكرامة. أما الفيلم فلغى السؤال من أصله؛ فالمخدعون يدقون على جدران الخزان، ولا أحد يسمع. وإذا أخذنا في عين الاعتبار العلاقة ما بين الإخصاء والموت والهروب، يمككنا افتراض الآتي: إن موت الرجال في الرواية بمثابة خلاص من الإخصاء المجازي بمعنى فقد الرجولة، أما موتهم في الفيلم فهو الإخصاء الذي يرتكبه بحقهم أبو الخيزران، والذي يكون الموت نتيجةً ثانويةً له.