بقلم موسى صالح
الصور: نُشرت بتصريح من/بموافقة المواهب المشار لهم\ن في المقال

هذا المقال من ملف ‘إنشالله بكرا’ – هيكل العدد هنا

“كم نحن محظوظون ومحظوظات، فنحن نخلق أنفسنا” هذه الجملة لإحدى شخصيات مسلسل “بوز”(Pose) الأمريكي الذي يصوّر عالم فن الجر بين السود في أمريكا في ثمانينات القرن الماضي، حيث كان فن الجر في أوجّه كما تخبرنا “صوفي غرسون” وهي فنانة جر لبنانية. هذا الفن الذي بدأ مع مسرحيات شكسبير حيث كان ممنوع على النساء تجسيد الشخصيات في الروايات فكان لابدّ من أن يحّل الرجال مكانهن بهيئة نسائية. وقد مر هذا النوع من الاستعراضات بمراحل ازدهار وخمود خصوصًا خلال فترات الحروب العالمية وعلى طوال تلك الفترات ليتحوّل من وسيلة لتجسيد دور النساء في المسرحيات إلى وسيلة لتقديم التسلية والإبهار والاعتراض على الأدوار الجندرية المعيارية، ولكنه مازال جديد على منطقتنا بشكله الحالي، بعدما كان أوج ازدهاره خلال القرن الثامن عشر بسبب التضييق على الراقصات الشرقيات الأمر الذي أدى انفتاح الرقص على أشكال جديدة يقدمها الرجال كما تذكر  آية الشرقاوي في ورقتها “كامب آخر أو التجلّي الثاني للكامب”، وتضيف آية أن الجانب الأهم من تمثيلهم لأدوار النساء كان تقاطع هذه الأدوار مع رجولتهم حيث لم يكن هؤلاء الرجال يحاولون التنكّر كنساء بشكل فعلي بل كانوا يجمعون بين الصفات والملابس الرجالية والنسائية بشكل يبهر الناس تمامًا كما يبهر فن الجر الذي نعرفه اليوم الجمهور. 

بعد عام من الانفصال عن الواقع الفعلي والانتقال للواقع الافتراضي عبر الإنترنت، ومحاولات نقل جميع الأعمال والفنون ومواد التسلية إلى عالم الأونلاين، نتساءل عن المستقبل وتخيلنا له كعالم يحكم التواصل وتأثير ذلك على فن الجر أو فن الدراغ في منطقتنا، ومحاولات انخراط فنانات الجر في عالم الإنترنت كوسيلة للاستمرار في تقديم التسلية والاستعراض، كما نفكّر، انطلاقًا مما تقدّم في فن الجر باعتباره أداة للتلاعب والانتقال بين الأزمان والمساحات والهويات الجندرية.

تعود سجلات فن الجر التي حصلنا عليها إلى أول رجل أسود أطلق على نفسه لقب “ملكة جر” في أواخر ثمانينات القرن الماضي اسمه “وليم دورسي سوان”، رجل يرتدي ثوب طويل من الستان أو الحرير ومجوهرات كبيرة يطلق على نفسه لقب “الملكة” أو “The Queen”. من زمن “الملكة” وحتى اليوم تغيّرت أشكال فن الجر وطرق تقديمه والمساحات المتاحة له أيضًا. تخبرنا خوخة مكوير وهي ملكة جر تونسية غير ثنائية الهوية الجندرية أن الإنترنت كان السبيل المتاح لها للتعبير عن نفسها وأفكارها منذ عام 2017 عبر كتاباتها وصورها على منصات وسائل التواصل المختلفة، والتي واجهت صعوبة فيها أيضًا بسبب سياسات تلك الشركات أو المنصات والاستجابة للتبليغات الكثيرة على محتواها الذي يعرض أفكار وأشكال لجسد غير معياري؛ فتقول خوخة مثلًا “اضطررت إلى فتح حوالى ما يقارب ٧ حسابات على فيسبوك في ٧ سنوات فقط وذلك بسبب التبليغ المتكرر على حساباتي واستجابة الشركة لتلك التبليغات.” 

في السياق ذاته تسلّط صوفي غرسون الضوء على أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في حياة الملكات اليوم خصوصًا بعد جائحة كوفيد-19 حيث “أصبحت آلية التواصل مع الجمهور في متناول جميع الملكات ويمكن لهن تحقيق الشهرة والانتشار بدون الخروج من المنزل حتى”، فتتيح تلك المنصات تحميل الصور والفيديوهات والخروج للجمهور مباشرةً حيث يمكن للملكات تقديم عروض من بيوتهن عبر خاصية البث المباشر، وهو ما يعطي فرصة لهن ولهذا النوع من الفنون للانفتاح والتحرر أكثر من قيود المكان والزمان. حيث وخلال السنوات الماضية التي بدأ فيها فن الجر بالازدهار كان على الملكة الاتفاق مع مكان لاستضافة عرضها وتجهيز اللوجستيات للعرض والدعاية والإعلان. وعلى الرغم من لذة التواجد على المسرح ولقاء الجمهور كما تصف لنا “أنا مصرية” وهي ملكة جر مصرية مقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تقول “أنا ابنت المسرح، قد خلقت للمسرح وأستمد قوتي منه ومن البريق والحماس في عيون الجمهور”، إلّا أنها اشتهرت أيضًا مؤخرًا بشكل كبير خصوصًا في منطقتنا بفيديوهاتها على منصة تطبيق إنستغرام التي تجسّد فيها شخصيات لسيدات مصريات تتناول من خلالهن مواضيع عفوية ومضحكة من واقع الحياة، الأمر الذي أكسبها جمهورا جديدا وأفقًا أكبر للتعبير عن ذاتها. كما لم تمنع فترة الحجر وإغلاق أماكن العروض أنا مصرية من تقديم عروضها، حيث وفي أكثر من مناسبة اصطحبت مشغلي الأغاني الخاص بها ونزلت إلى الشارع لترقص وتعبّر عن ذاتها وتشارك الناس فرحتها الأمر الذي يجبرنا على إعادة التفكير بديناميكيات وأساليب خلق مساحاتنا الآمنة وكيفية الاستفادة من الظروف القاهرة لإعادة تشكيل منافذ يمكن من خلالها التعبير عن ذواتنا. 

“أصبحت آلية التواصل مع الجمهور في متناول جميع الملكات ويمكن لهن تحقيق الشهرة والانتشار بدون الخروج من المنزل حتى”

صوفي غرسون” وهي فنانة جر لبنانية

وانطلاقًا من هذه النقطة تشير صوفي إلى تطوّر وسائل التواصل بين ملكات الجر والجمهور من المسارح والعروض المباشرة إلى المساحات الرقمية غالبًا كتطوّر طبيعي لمفهوم فن الجر وأشكاله والوسائل التي تلتزم الملكات أيضًا حيث كان عليهن في السابق تحضير كل ما يخص العروض من شكل وإطلالة وأفكار بينما مع التطوّر الصناعي والتجاري اليوم  يمكن أن تكون جميع مستلزمات الشكل، من فستان وشعر ومكياج، جاهزة أو بمساعدة آخرين مختصين.

 وتتطرق صوفي أيضًا إلى نوعية العلاقات التي تتولد عبر الإنترنت بين ملكات الجر والجمهور، حيث المساحات مفتوحة إلى حد كبير والجمهور أوسع مما قد يحتويه أي مسرح فيمكن أن يتابعهن الأشخاص معياريّ الهوية الجندرية من رجال ونساء أو أشخاص من مناطق لم تسمع بفن الجر من قبل وهو ما تركّز عليه “مليني كوكس”، وهي ملكة جر من لبنان، كما تقول “أتعامل مع الرسائل العنيفة التي تصلني تعليقًا على شكلي وتمويه الهوية الجندرية بطريقة عكسية أحاول من خلالها نشر التوعية والتعريف بفن الجر وأهميته بشكل أساسي عبر خاصية البث المباشر خلال تطبيق مكياجي والإجابة على الأسئلة بتلقائية”. وفي هذا السياق تشير صوفي إلى فكرة تعريف الأجيال الكويرية الحالية على ملكات جر سبقوا أو فنانات وممثلات من القرن الماضي ما له من أهمية في الحفاظ على تاريخ طويل من الصراع مع مجتمعات طغى عليها الصفات الجندرية المعيارية لتقول إن ذلك ليس القاعدة ولم يكن يومًا كذلك.

وهذا ما يجعلنا نربط بين ما يقدمه فن الجر من أبعاد مختلفة توظّف اللامعيارية الجندرية بقالب صلب من الاستعراض والأفكار والشخصيات، وقدرته على الانتقال بين الأزمان والمساحات أكان على الأرض أو عبر الإنترنت، وذلك بقدرة الملكات على تقديم أنواع مختلفة من العروض وتجسيد شخصيات فنانات من الحقب السابقة مثل الممثلة الأميركية هيدي لامار والفنانتين اللبنانيتين صباح وفيروز، أو القدرة على تخيّل شخصيات من المستقبل، ما يتجلّى أيضًا في عروض وإنتاجات آنيا نيز، وهي فنانة جر لبنانية مقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ترتكز معظم عروضها على البث غير المباشر عبر الفيديوهات المسجلة والتي بخبرتها في التعامل مع مساحات الإنترنت ومميزاته استطاعت تجسيد شخصيات مستوحاة من الخيال الكويري أو فن البوب العربي بشكل خاص الفنانة اللبنانية نوال الزغبي. وتتعامل نيز مع حنينها للوطن بشكل رومانسي تفاعلي تعبّر من خلاله عن نفسها وثقافتها مثل الفيديو الأخير الذي أنتجته وسط مجموعة من الأصدقاء قدّمت فيه شخصية الأيقونة فيروز، الأمر الذي يرتبط بطفولتها وذكرياتها عن الوطن، “كان أهلي يرسلون فيديوهات مصورة لأقاربنا في لبنان كي نبقى على تواصل” والتي كانت وسيلة التواصل الوحيدة المتاحة وقتها. 

وعلى الرغم من الاستفادة من الإنترنت في الوقت الحالي واستخدامه كأداة للتواصل والانتشار وتقديم فكرة فن الجر على نطاق واسع في المنطقة ككل، إلّا إنه هناك العديد من المعوقات التي تقف بوجه ملكات الجر للانطلاق وإقامة النشاطات والاستعراضات عبر الإنترنت أهمها صغر القاعدة الجماهيرية في المنطقة بشكل عام. الأمر الذي يجعل الملكات في معضلة تحقيق نسبة حضور، خصوصًا في حال فرض رسوم على الدخول للمشاهدة وهي ثقافة تعتبرها “كوكس” ثقافة غير متعارف عليها في منطقتنا بعد على عكس عروض الجر في الولايات المتحدة مثلًا التي انتقلت إلى عروض افتراضية بالكامل منذ بداية الجائحة العام الماضي. هذا بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية الشبه دائمة التي تعيشها دول المنطقة مما يجعل من فكرة الاعتماد على العروض عبر الإنترنت لتحقيق دخل فكرة غير واردة، إلّا أن الإنترنت يبقى عالم واسع من المساحات التي تحاول ملكات الجر اختراقها واستملاكها بهدف نشر التسلية والتوعية في آن كما تأكّد أنا مصرية.