بقلم غدي كفالة
العمل الفني: لينا أ.

 

في ظل ما تواجهه ليبيا من حروب أهلية وقبلية امتدت لأكثر من تسع سنوات منذ انتفاضة الشعب في ٢٠١١ برزت حروب أخرى على شاشات التلفاز في آخر ثلاث سنوات على شكل برامج مُذاعة على قنوات خاصة ورسمية، هذه البرامج تنتهج منهجية أحادية تناهض فكرة التعايش المجتمعي والمشاركة المتساوية والعادلة لكلا الجنسين، حيث تحاول هذه البرامج بث محتوى تحريضي ضد النساء للتطبيع مع العنف والخيارات الذكورية والنظام الأبوي الظالم الذي لطالما ساهم في حرمان الكثير من النساء الليبيات من أبسط حقوقهن الفردية والمدنية

 

أنتِ السبب دوماً  

خرجت علينا الإعلامية سلوى منصورمن خلال برنامج (للاّ) بجملة تلوم فيها النساء بأنهن السبب الرئيسي لإيصال أنفسهن لهذا الحال البغيض، فهن دوماً ما يتعدين الخط الأحمر الموضوع من قبل الرجال لهن، حيث تقول

لابد للنساء أن تُعامل الرجل بفراسة وذكاء أكبر، حيث لا تصل معه لمرحلة جدال قد تضطره لإيذائها أو ضربها وتعنيفها، فهي بذلك تكون السبب في ذلك وتستحق ما يحصل لها في هذه الحالة”

كما أنها شبهت الرجال بإشارة المرور التي يجب على النسوة التنبه في حال تم إجتياز اللون البرتقالي والدخول للون الأحمر الذي يلزمنا بالتوقف تماماً عن مواصلة الخصومة والغضب والنزاع بين الرجل والمرأة، وعللّت ذلك بأن هذا لمصلحة النساء جميعاً بأن يمتنعن عن العناد والتشبت بمواقفهن في تلك اللحظات وحتى وإن كنُ على حقبالتالي تقع عليهن المسؤولية الأولى والأخيرة للاعتداء عليهن

البرنامج يدعي أنه مناصر لقضايا النساء ويناقش مشاكلهن وتحدياتهن في المجتمع بينما هو يرسخ فكرة التأقلم مع السياسات والنظم الموضوعة من قبل الرجال، وأن إذعان النساء لهكذا نظم سيجنبهن الكثير من الأذى النفسي والجسدي واللفظي. ولم تتوقف المذيعة سلوى عند هذا التصريح فقط فهي كانت تحاول في أكثر من حلقة للبرنامج أن تذكر أنها مع العدالة للنساء ولكنها ضد المساواة مع الرجل، فهي ترى بأن العدالة تناسب النساء وحدهن والمساواة مع الرجل هي مطلب خاطئ ولا يتناسب مع طبيعة المجتمع الليبي وأعرافه

كما أنها أوصت النساء بأن يلجأن للعائلة والأقارب في حل مشاكلهن بطريقة خاصة، فهي طريقة المثلى لدى العديد من النساء اللاتي يوصمن بنوع من الوصم بعد الإنفصال أو الطلاق لذلك يفضلن هذا الحل بدل اللجوء للقضاء والشرطة والتبليغ ضد معنفيهن وهذا سيجنبهن الكثير من الأوصام والمتاعب المستقبليةورغم وجود أرقام خطوط ساخن للتبليغ وإرسال الشكاوى وهي تابعة لوزارة الداخلية ووزارة الشؤون الاجتماعية، إلا أن النساء في الغالب يمتنعن عن فعل ذلك بسبب التقاليد المجتمعية وطبيعة المجتمع المنغلقة، وكذلك عدم وجود ضمانات مادية أو ملاجئ للنساء المعنفات من أزواجهن أو عوائلهن من قبل الدولة، هذا ما يزيد عليهن صعوبة التواصل مع الجهات المعنية. 

ولم ينتهي الأمر لهذا الحد بل أن المحاورة الرئيسية للبرنامج وهي الإعلامية المخضرمة سعدة الهماليالتي أكدت وناصرت فكرة زميلتها في أكثر من مناسبة بأن المرأة هي التي تجلب الإهانة لنفسها في هكذا مواقف، فهي بإمكانها بسهولة الانسحاب وحفظ كرامتها والتنازل عن حقها وهذا سيضمن لها العيش باستقرار وأمان دائم

 

قعدة مطعم و بنطلون وكعب عالي 

” راجلك ما يندريش عليك شن لابسة, إنت كيف طالعة في بنطلون وسورية وماشية تتغذي وسط مكان فيه تريس ونساء” ومن ثم يستطرد ” واصلين لـ ٢٠٢٠ وهي مقعمزة في المطعم بالبنطلون والكعب العالي وشعرها مفتوح مش مغطي وتطلب هي في الطلبية واللي ماشي وراءها هذا يهز في رأسه ( قاصداً زوجها) هي اللي تطلب له مش هو ياخذ اللي يبيه” 

كيف لزوج أو أخ غيور أن يترك زوجته أو أخته ترتدي البنطلون علناً, و يتركها أن تجالسه أو تدعوه لتناول وجبة في مطعم مختلط مليئ بالرجال وأمام عامة الناس, وفوق من هذا يوافق على اختياراتها لأكله وشربه ضمن قائمة الطعام وهو مجرد ( دلدول) أو مسكين يهز رأسه مطيعاً لها

هذا ما يحاول أن يقدمه التلفزيون الحكومي عبر قناة ليبيا الرسميةوالتي تبث برنامجاً أسبوعياً  يدعى (لمسة) أو ما يسميه جمهوره ببرنامج “عمي الهاديوالذي غالباً ما يقدم محتوى خدمياً وإجتماعياً يقوم فيه المذيع بتقديم نصائح وإرشادات عن العلاقات الأسرية وتعامل الأزواج والزوجات فيما بينهم مبنية على تجاربه الحياتية دون استناد علمي أو سيسيولوجي واضح ففي كل مرة يظهر فيها هذا المذيع مؤكداً على قوة العادات والتقاليد للمجتمع ووجوب طاعتها واحترامها ولربما حتى تقديسها لدرجة أنه أثنى ومدح المرأة التي تستحي من الأكل أمام زوجها أو أبيها فتقوم بالأكل لوحدها متخفية عنهم وكأنها تقوم بعمل فاحش أو دنئ

يعتقد الكثير من جمهوره أن هذا المذيع هو قدوة مُثلى وحسنة ولابد لكل النساء الصالحات أن يتبعن نصائحه وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال التعليقات عبر (السوشال ميديا) الليبية هناك ينطلق الأشخاص ذوي النزعة الذكورية بتلميحات وإسقاطات دينية ومواقف تاريخية للنساء الخجولات والمطيعات لأزواجهن وكأنهن (منتج) له مواصفات محددة لا يمكن الحياد عنها. دوناً عن التعليقات فالكثير من المكالمات التي يستقبلها المذيع في كل حلقة تنبئ بأن هذا البرنامج يحظى بمتابعة وتأثير كبيرين على الساحة الليبية والجمهور المحلي

 


مرأة حاشاك

على غرار التلفزة الرسمية لا يتوانى ممثلو الكوميديا الرمضانية في إستخدام النساء كمادة يتعففون عنها أو يتاجرون بقضاياها ففي كل مرة يصور فيها بعض الكوميديون الليبيون النساء والفتيات في مواضع ضرب أو تعنيف أو إذلال يتسارع الآخرين لنسخ هذه المشاهد في برامج ومسلسلات من نفس النوع كل سنةهنا الجزء الثالث لمسلسل صاير صاير والذي عرض في رمضان ٢٠٢٠ صور لنا سكتشات يزعم أنها من واقع الأسرة الليبية والتي تفقد فيها المرأة سلطة ولو جزئية لإبداء الرأي والمشورة واتخاذ أبسط القرارات الفردية بالنسبة لحياتها هذا المسلسل عرض مشاهد الأخ الذي يعنف أخواته بالتهكم على مظهرهن وملابسهن والتطبيع مع فكرة الانصياع لقرارات الأخ وإن كانت خاطئة أو في غير محلها. فالممثل (أصيل بحير) حاول في كل حلقة تقريبياً أن يصور نفسه كرجل البيت أو (سي السيد) الآمر الناهي في كل ما يتعلق بحياة أمه وأخواتهناهيك عن طريقته المضجرة في السخرية والعدائية المفرطة وردود الأفعال المبالغ فيها

ولم ينقطع عنا نحن كمشاهدين/ات هذا النوع من المحتوى التلفزيوني، فتكرر ضمن مشاهد الكاميرا الخفية والتي من المفترض أن تكون متنفساً للأوضاع الاجتماعية القاهرة التي تعيشها الكثير من النسوة الليبيات الآنحيث عرضت قناة سلام كاميرا خفية تظهر فيها شاباً استخدم كلمة (حاشاك): والتي عادةً ما تستخدم في اللهجة الليبية بعد قول كلمة أو حدث سئ أو قذر أو مقزز,  فالشاب هنا استخدم هذه الكلمة بعد ذكره لكلمة فتاة أو بنت مباشرة وكأنها أمر مقزز أو مثير للقرف لديه وهذا ليس غريباً عن مجتمعات أخرى  كبعض المجتمعات العربية التي تذكر مصطلح ( أكرمك الله) بعد ذكرهم لكلمة حُرمة أو سيدة

تحامل جندري وتمييز عنصري وتراكمات اجتماعية ساهمت في تكوين هذا النوع من الإعلام المسّوق له بشكل واسع فبعض من هذه البرامج يُخصص لها ميزانيات سنوية كبرى من قبل رجال أعمال وشركات إنتاج محلية كذلك بعض الأشخاص المهتمين بالإنتاج الرمضاني السنويهذا التحامل والتعنيف وجهت له العديد من الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل ناشطات نسويات وحقوقيين وحقوقيات عبر الهاشتاق (#لا_لترسيخ_العنف)هذا الهاشتاق لاقى العديد من ردود الأفعال الرافضة لهذا المحتوى والذي لا يطرح حلولاً أو أنتقادات بل هو وسيلة داعمة للذكورية والأبوية الظالمة

من بين ردود الأفعال هذه- محمد حمد يقول: العنف المرئي عبر التلفزيون يزيد من الاستجابات العدوانية للمشاهدين أي كان الوسط الاجتماعي المنحدرون منه أو المستوى التعليمي الذي وصلوا إليه أو سلوك آباءهم معهم.

أما مورينا ليبيا انتقدت كاتب مسلسل صاير صايرعبر الهاشتاق وقالت: هل كاتب أغنية (جلطة) شريف الشريف مؤهل لكتابة مسلسل موجه للمجتمع وله تأثير على سلوك المراهقين, فمسلسل صاير صاير يروج للعديد من الأشياء وأولهم شيطنة المرأة وإهانتها وتشجيع المراهقين على عدم إحترام الأخت والأم والزوجة مستقبلاً. 

كما بادرت مجموعة من النسوة الناشطات والمنظمات الفاعلة لإرسال عريضة أو بيان رفض واحتجاج لقناة سلام عن المحتوى الذي تقدمه من خلال محاولات لإعادة النظر فيه. حيث قالوا ” لاحظت المجموعة المتابعة أن هناك تمييزا عنصريا وعمریا في طريقة التقديم والاستضافة من خلال برامج معروضة وذلك بغرض الترويج لأفكار متخلفة وجاهلة مواضیع السحر والشعوذة وكأنها مواضیع علمیة مشاعة ويؤخذ بها، هذا إلى جانب العمل على إسناد وجهات النظر إلى أسس عقائدية بعيدة جداً عن المعرفة والبحوث العلمية. ونحن بهذا الخطاب نطالب إدارة القناة بأخذ إجراءات صريحة وجدية في تكليف شخصيات ذات كفاءة في المجال الإعلامي تكون قادرة على وضع المادة التي تتوافق مع العقول المتعلمة وترتقي بتلك التي تحتاج إلى العلم والمعرفة وفق قوانين حقوق الإنسان المتفق علیها عالمیاً وإنسانیاً بحیث تساهم الأداة الإعلامية في بناء المجتمع وتقاوم انهياره وتخلفه”.

أخيراً، الإعلام يعكس مدى وعي المجتمعات بذاتها وبمشاكلها وهو وسيلة لحفظ حق المجموعات المهمشة والمضطهدة كذلك الأقليات والمكونات غير المدعومة, هنا النساء في ليبيا يعانون بشكل خاص ويلات الحروب والتعنيف والظلم والاضطهاد وأن دور الميديا السلبي كان بمثابة آخر سكين رشق في جسد كل أمرآة ليبية. هنا الإعلام المحلي لازال أحادياً غير متوازن ينقصه المزج الصريح والتنوع الجرئ والفئوية المتجردة، فلا خوف على مجتمع إعلامه يقاد بإنبثاق نسوي أو حراك شعبي ولابد أن يكون صوته واضحاً بمفردات حقيقية تمس تلك الفئات والمجتمعات وتمثل كل الألوان والأطياف.