in English


تنبيه: هذا النص يحتوي على مشاهد فيها عنف قد لا تكون مناسبة للجميع.


بقلم: هبة أبو طه
العمل الفني: عود نصر
هذا المقال من عدد رقم ’70’ – هيكل العدد هنا

 

لم أتقبل يوماً ذاتي، هذا الجسد لا يُمثلني ولا يُشبه ما يعتريني من الداخل، كل ما بجسدي ليس لي، أنا مقيدة ولا أستطيع الاستمرار بالحياة في هذا الشكل، حاولت الانتحار مرتين لكن قدرة إلهية جعلتني أنجو من الموت، وطني اليمن ظلمني،  والعالم يرفضني،  وقسوة الجلاد ما زالت تسكنُ مخيلتي، وعتمة السجن ما زالت تُسدل ظلام أستارها على حياتي، ورجس المغتصب ما زال عالقا في مواطن جسدي، أخشى الحديث عن جُرحي وألمي جهارا وحتى سراهكذا حال لسان ريتاج من اليمن، ابنة الأربعة وعشرين ربيعا العابرة جندريا.

 

طفولة أليمة
ألم وتفكك وضياع وحرقة كانوا ينتظروا ريتاج عندما فتحت عيناها على هذا العالم لم تكُن تدرك ما الذي يجري حولها فليس هناك رجل يضمها لذراعيه ويهمس بأذنها أنا أباك ولم تُغطي الورود المكان ولم يعُم الفرح على العائلة ولم يُقفل باب المنزل عليها وعائلتها بل أقفل عليها أول باب للسعادة والأمان حتى أمها التي أنجبتها وتشكلت ريتاج في داخلها لم تغمرها السعادة عند مجيئها لأن ريتاج بالنسبة لها ليست أكثر من نتيجة زواج فاشل انتهى حتى قبل قدومها على هذه الدنيا.

ريتاج لم تتقبل ذاتها يوما بهذا الجسد الذي فُرض عليها حاولت تجاهل ما تشعر به لكن لم تستطِع فكان شيء بأعماقها يُحركهاتمردي تمردي’، فمنذ الصف الرابع الابتدائي وريتاج بدوامة بلا نهاية لا أحد معها ولا أحد يصغي لها، لا أب ولا أم، فهي بمنزل الجد والجدة اللذان ما زالا ينظران لكل أمر مختلف بأنه شاذ ويجب تجريمه وما زالت كلماتهم تُلاحق ريتاج ليومناأنت مايع، أنت مش رجال، ما عندك ذرة رجولةتقول هُنا ريتاج كنتُ أُظهر أمامهم بأني غاضبة من تلك الكلمات لكن بأعماقي أفرح نعم صحيح أنا لست رجل نعم صحيح ولا أريد أن تكُن ذرة الرجولة عندي“. 

تكمل ريتاجلقد عشتُ طفولتي وحياتي بذل فقد كانوا يتعمدون إذلالي دوما علاوة على التعامل معي كعاملة دوري أن أنظف بيت جدي دون مساعدة  وكانت أمي تردد عبارة لا أنساها منذ طفولتي إلى يومي هذا، وهي تقوليا ريتني ما خلفتك.. أنت ابن الناس مش ابني’


إغتصاب
“كل جرح وصفعة وألم أحبسه بداخلي ولا أملك القدرة على الإفصاح عنه، خوفي كان يمنعني حتى من الحديث عنه بيني وبين نفسي، حتى تلك الحادثة الأليمة التي مررتُ بها كتمتها بأعماقي، فذات ليلة حيث كنت أغفو على أحلامي وأنتقل إلى العالم الذي أتمنى أن أعيش به وأنا غارقة بذلك وإذ بوحش على هيئة بشر نزع بنطالي فاستيقظتُ على وقع الصدمة وتوسلت إليه الإبتعاد عني لكنهُ هددني بقتلي حال لم أمارس معه الجنس وفعلاً مارسه معي عنوة وتحت التهديد وللأسف هذا الشخص كان شقيق والدتيخالي“، بعد هذه الواقعة كرر ممارسة الجنس معي تحت وطأة التهديد عدة مرات لحين ذات يوم دخلت والدتي وهو يُمارس معي هذا الفعل فقال لهاابنك مخنوث وبشتهيني وهو بطلب منيلم تقِف والدتي معي رغم أنني أعلمتها بأن شقيقها اغتصبني عدة مرات لكن عبثاً فقامت بضربي وحبسي بغرفتي.”


حياة
جديدة
كانت ريتاج مُقيدة تُحاول أن تعيش ما تريده سراً فترتدي الفساتين وتضع المكياج بالخفاء، لحد إكمالها الثانوية العامة وتصميمها على اختيار تخصص في جامعة بعيدة عن المنطقة التي تقطُن بها عائلة جدها، وفعلا تمكنت ريتاج من ذلك والتحقت بجامعة في مدينة (…) الكائنة باليمن واستأجرت غرفة لتعيش بها وهُنا انطلقت لحياتها الجديدة وللعيش بين أربعة جدران بمسكنها، أربعة جدران لا يفضحوا سرها ولا يُمكن أن يُبلغوا عائلاتها عما تقوم به، فكانت دوما تُحب أن تعود من الجامعة إلى عالمها الصغير تحكم إقفال الباب  لتنزع ثياب الذكر وترتدي ثياب الأنثى وتضع بعض مساحيق التجميل على وجهها وتستخدم جهاز إزالة الشعر وتنظر على نفسها بالمرآة تتمعنُ ذاتها وتتخيل اليوم الذي ستتمكن فيه من إجراء عملية العبور الجنسي لتحقق حلمها الأزلي.


تعذيب
وسجن
تقول ريتاجربما تماديت في أحلامي وتجرأت كثيرا على هذا المجتمع الرجعي، وقمتُ بتنظيف حاجبي وتعديلهما، وارتديتُ ملابس أنيقة وخرجتُ إلى الشارع ويا ليتني لم أخرج ذاك اليوم، لأنني دفعتُ ثمنا صعبا لحريتي هذه“. 

تكمل ريتاجانطلقت في هذا الشارع وتقدمتُ خطوة ثم خطوة أخرى لم أُكمل مسيري إلى حيثُ كنتُ أريد، فقد اعترضوا طريقي العساكر وسحلوني وكبلوني واقتادوني إلى قسم الشرطة حيث تعرضتُ لأقسى أنواع التعذيب من ضرب إلى تنكيل قضيتُ عشرة أيام وأنا من تعذيب لآخر أغفو على اغتصاب وأصحو على بسطار عسكري يدعسُ به على وجهي ومن ثم يذهبوا بي إلي غرفة التحقيق التي بها كل ما يخطر على بال أحد من قسوة بالتعامل حتى أن الصعق بالكهرباء كان أرحم أنواع التعذيب في تلك الغرفة لإجباري على الاعتراف بأمور لم أرتكبها مثل أن لدي شبكة دعارة، وأنني شاذ وأمارس الجنس. خرجت من القسم لمكان أقسى وهو البحث الجنائي، قضيت به عشرة أيام أيضاً وكل أنواع التعذيب عدتُ وعشتها لكن مع أشكال جديدة، مثل أن يقوموا بتعليقي وسكب الماء علي، فقد قلعوا لي أحد أسناني وأظافري، وعندما كنت أعجز عن  النهوض بسبب التعذيب، كانوا يحملوني فيالبطانيةويلقوني بالمهجع حيث كنتُ أنام”.

“كل ذلك عالق في ذهني، لكن ما كان أشد قسوة علبة الشطة الفارغة التي قاموا بإدخالها في  فتحة الشرج ليتأكدوا من مارستي الجنس. بعد ذلك دفعت عائلتي مبلغ 300 ألف يمنيرشوةليتحول ملفي إلى النيابة العامة واودعوني حينها في السجن الاحتياطي لمدة ستون يوما لحين صدور الحكم”.

 

“ربما تماديت في أحلامي وتجرأت كثيرا على هذا المجتمع الرجعي، وقمتُ بتنظيف حاجبي وتعديلهما، وارتديتُ ملابس أنيقة وخرجتُ إلى الشارع ويا ليتني لم أخرج ذاك اليوم، لأنني دفعتُ ثمنا صعبا لحريتي هذه”.

العمل الفني: عود نصر

مائة جلدة
اتهموني بالتشبه بالنساء واللواط، وحتى المحامي الموكل بالدفاع عني لم ينفذ من كلامهم، ففي جلسة المحكمة قال لهٌ العضو النيابيكيف بترضى لحالك تدافع عن واحد خنيثوفي النهاية قرر القاضي إصدار حكم بحقي يقضي حبسي سنة لكن مع وقف التنفيذ، إضافة لجلدي مائة جلدة تعزيرية، وفعلاً على العلن أمام العشرات من الأشخاص في ساحة المحكمة خلعوا ملابسي ومددوني على الأرض وجلدوني مائة جلدة”.

 

سجن منزلي
خرجتُ من السجن وذهبتُ إلى منزل جدي حيث أقطن كما أسلفت الذكر، فقاموا باحتجاز حريتي وحبسي في غرفة وقامت والدتي بجلدي بسلك الكهرباء ومن ثم مسح جسمي كامل بالفلفل الحار، وقيدوني وكبلوني لحين ما شفق علي ابن خالتي الصغير وساعدني في الفرار من منزل عائلتي وحينها ذهبتُ لصديقي الذي احتواني. قامت عائلتي بتهديدي ونشر صورتي على مواقع التواصل الإجتماعي والكتابة عني أننيخنيثمن أجل أن يعودوا العساكر و يقبضوا علي مرة أخرى، وأنا الآن لا أستطيع الخروج حتى إلى الشارع، أحلم باستنشاق الهواء، أحلم بأن أرى بشراً في الشارع.” 

 

الموت أرحم
“بعد كل ما أسلفتُ ذكره حاولت الخلاص من حياتي فلا متسع لي في هذا العالم، المرة الأولى أخذت حبوب مهبط ضغط واسعفني صديقي إلى المستشفى وأجروا لي غسيل معدة، ومرة أخرى حاولت قطع شريان يدي بالسكين ومن ثم جاء حينها صديقي ومنعني من إستكمال ذلك”.

ختمت ريتاج حديثها قائلةأنا ما عندي حد غير الله ورب الكعبة ومش قادرة أكل، أحيانا بقعد يومين ما بفوت تمي شي عايشة برواقة وما في أي مشاكل أنا لو انمسكت مرة ثانية أو انحبست بقضي عمري كله بالسجن” تقول وهي تجهش بالبكاءما في حد بقدرني وما في حد بيحس فيني، نفسي أطلع من اليمن بس ما في حد يساعدني، وما في حد معي، تواصلت مع منظمة حقوقية قابلتهم مرة وحدة أجوني بسيارة وما عاد تواصلو معي، قالوبنوفرلك السكن’ بس ما توصلوا معي وما عبروني، ما حد صادق معي وما حد أنقذني، شو يعني بالغصب بدي أصير رجال؟ مش قادرة أتقبل حالي“.

 

انتهاكات بالجملة
ريتاج ضحية للنظام الأبوي ورجعية النظام الحاكم التي تُهيمن على البلاد وتنعكس على العائلة التي تُصبح بشكل أو بآخر جلاد آخر كما حصل مع ريتاج، فالسلطة الجلاد الأول والعائلة الجلاد الثاني، وما هذا إلا نتاج النظام الأبوي والرجعي كما أسلفت الذكر، فحتى المدينة لم تتحرر من ذلك فالرجعية في كل مكان في المناهج المدرسية والجامعية وبعقلية المتنفذ والقاضي وحتى بمطرقته، فهي أيضا تخلت عن العدالة وضربت حقوق الإنسان والمعايير الدولية بعرض الحائط ورضخت لعقلية السلطة الرجعية، فلو مررنا على بعض من هذه المواثيق سنجد أن ريتاج تطالب بحق مشروع، فقد نصت المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على التالي: ” لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته” وشددت المادة (12) من الإعلان العالمي على عدم جواز التدخُّل التعسُّفي في حياة الإنسان الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمسُّ شرفه وسمعته. ولكلِّ شخص حقٌّ في أن يحميه القانونُ من مثل ذلك التدخُّل أو تلك الحملات”.

نهاية ريتاج لم تقترف جريمة ولم تعتدِ على أحد، فهي ببساطة  لم تتقبل ذاتها منذ مجيئها إلى هذا العالم لا تريدُ أن تكون رجلاً. أسرتها تُعاقبها والمجتمع ينبذُها والدولة تعتقلها وهي لم تُطالب سوى بأبسط حق لها. ريتاج تعيش اليوم بخطر وخوف وقلق من السجن ومن القتل، تحاول أن تمضي بهذا العالم لكنها تصرخ من أعماقها وتُناجي الله بأن يرسل لها أحداً لينقذها من السجن الكبير الذي تحيا به وهو للأسف وطنها الذي ظُلمت به على يد السلطة.