بقلم أحمد عسيلي
الصور: نُشرت بتصريح من/بموافقة 
فوتو ستوديو الأمين 
ملاحظة: تم استخدم الصور لأسباب تعبيريية وذلك لعكس محتوى المقال.
هذا المقال من ملف عدد ‘الزواج و الأعراس’ – هيكل العدد
 هنا

 

لو نظرنا لصورتين، الأولى لرجل مع عدة زوجات وعدد من الأولاد، والأخرى لرجل مع زوجة واحدة وولدين، وطلب منا تحديد أيهما الأكثر روعة و”حضارية”، أي واحدة سنختار؟

بالتأكيد سينظر معظم الناس إلى صورة تعدد الزوجات بشكل مستهجن ومرفوض، في مقابل الشكل الجميل والرائع للصورة الأخرى، المعبرة عن روح حضارة الإنسان. لكن لماذا هذا الاختلاف في الحكم، طالما أن الاثنين يمارسان حياتهما الخاصة، عن قناعة وخيار شخصي، وما الذي جعل الصورة الأولى “قبيحة” جدا لدى عدد كبير من الناس، والثانية “مرغوبة”؟ وأيهما أقرب لطبيعة الإنسان و فطرته؟ هذا ما ستحاول هذه المقالة الإجابة عنه. 

 

الإسلام والزواج
بداية، الزواج في الإسلام هو عقد بين طرفين، قوامه الموافقة والإيجاب، بحضور شاهدين،  يمكن للمرأة أن تطلب فيه يد الرجل، فيوافق، كما فعلت السيدة خديجة عندما طلبت يد الرسول محمد، فوافق  وتم الزواج، أو يطلب الرجل يد المرأة، فتوافق، و إذا رفض أحد الطرفين، يعتبر العقد ملغى، والعلاقة هنا تعتبر اغتصاب حسب المفهوم الإسلامي، و ليس زواج، وقع على  عاتق المجتمع مسؤولية منع الاغتصاب، فعندما تجبر امرأة رجل على الزواج فهنا المرأة مجرمة مغتصبة للرجل، والعكس صحيح أيضا.

استمرارية العقد، أي الزواج، مرهونة أيضا  باستمراية الموافقة، فيحق لأي طرف أن يغير رأيه لاحقا، فيبطل العقد، سواء غير رأيه الرجل أو المرأة، مهما كانت الأسباب، و قصة تميمة بنت وهب التي جاءت إلى الرسول (باعتباره كان ممثلا للسلطة التشريعية)  لتطلب الطلاق من زوجها، وصرحت بكل وضوح أن السبب عائد فقط لانعدام  رغبتها الجنسية فيه  (إني لا أعيب عليه في خلق ولا دين) معروفة و متداولة  في الأدبيات الإسلامية، كما يمكن للرجل أيضا  أن يطلب الطلاق لأسبابه الخاصة، سواء كره هذه الزوجة، أم وقع في حب أو الرغبة في سيدة أخرى، أو لأسباب تعود له وحده.

أما العلاقات المتعددة، فقد تركها الإسلام لخيار الأزواج، بمعنى أنه يمكن أن يقرر الزوجين البقاء بعلاقة واحدة مغلقة مدى الحياة، و يحتفظ كل طرف بحقه لاحقا في تغيير رأيه، فلو  أراد الرجل الدخول في علاقات متعددة (لاحقا) فهو مباح، و ممكن هنا للمرأة أن توافق، فتبقى معه، أو تعترض فيحق لها طلب الطلاق مع كافة التعويضات الواجبة على الرجل، و إذا أرادت المرأة الدخول في علاقات متعددة، فهو مباح، و يمكن لها الزواج بمن أرادت وفورا بعد الطلاق إذا لم تقم بينهما حتى زمن الطلاق ممارسة زوجية، أو حتى تلد في حال كونها حامل، أو مرور ثلاث حيضات أو ثلاثة أشهر بين الطلاق و الزواج برجل آخر.

  فلماذا أتاح الإسلام تعدد الزوجات للرجل في وقت واحد وأتاحه للمرأة في أوقات متعددة مع فاصل فترة العدة الممتدة لثلاثة أشهر تقريبا؟هنا، و لفهم الجواب أكثر، يجب أن نستوعب أن الفلسفة الإسلامية بصيغتها الأولى، هي فلسفة عملية، وليست طوباوية أو حالمة تتوه  في اليوتوبيا، فالإسلام  دين مدرك لإمكانية  (وليس لبديهية) اشتهاء عدة أشخاص في نفس الوقت، لكن و لأنه عملي جدا، و يريد الحفاظ على مجتمع يعمه السلام، ولعدم إمكانية تحديد نسب  الجنين في حال الإنجاب داخل علاقات يتعدد فيها الأزواج الرجال للمرأة الواحدة في ذات الوقت، ولأهمية تحديد هذا النسب  في ظل مجتمعات الجزيرة العربية القائمة على أساس  النسب للأب، فقد اشترط على المرأة علاقة واحدة في فترة واحدة، و أن تبقى 3 أشهر بعد كل طلاق دون زوج، أي ريثما يتم إثبات أو نفي وجود جنين من زواجها السابق، و عندما تتحرر من هذه الإمكانية، يجوز لها الذهاب إلى من تريد وطلب إقامة عقد لعلاقة زوجية معه. 

فهل هناك ظلم للمرأة في هذه الحالة؟ نعم  هناك ظلم لسياق العلاقة، لأن المساواة تستلزم امتلاك الطرفين لنفس الحرية، لكن للطبيعة هنا قول آخر، ونظريا، كان يجب على المرأة امتلاك حق التعدد كالرجل، و الإسلام مدرك لهذه الحقيقة، لكنه ولأنه دين براغماتي وواقعي، فما الذي ممكن أن يحصل لو أقامت المرأة علاقة مع رجلين ونجبت طفلا؟

هل ممكن في ظل الوسائل الحديثة لمعرفة نسب الطفل، السماح للمرأة بالتعدد كالرجل؟ سؤال فقهي حساس، يتطلب حرية واشتغال فكري، لا نملكه كمجتمعات حاليا، بالرغم من امتلاك المجتمعات الإسلامية الأولى لهذه القدرة، وتوصلهم في مراحل عديدة لإعادة النظر في قوانين كانت تعتبر من ثوابت الدين، و فيه نص قرآني  واضح، أي كان يعتبر وقتها بمثابة تغيير مادة بالدستور الديني، كوقف تنفيذ قطع يد السارق، و منح أموال المؤلفة قلوبهم، لكننا حاليا، وبعد قرون من الاحتلالات واستلاب للشخصية، أصبح من الصعب اتخاذ قرارات جريئة كما فعلتها المجتمعات العربية في عصرها الذهبي. والتي ربما، ربما لو أتيحت تقنيات معرفة الجنين في  تلك العصور، حينما كنا ما زلنا  نمتلك ثقة بشخصيتنا الاجتماعية، وقبل انهيار المجتمعات العربية وتدهورها في عصور الانحطاط، ربما كنا أبحنا تعدد الأزواج للمرأة، لكنها تبقى فرضية نظرية جدا، ومعتمدة فقط على القراءات الاجتماعية لتلك المجتمعات، أما التعدد للمرأة في فترات متباعدة بثلاثة أشهر بين علاقة وأخرى فقد خبرتها في بدايات الإسلام، الكثير من الصحابيات، اللاتي تزوجن أربع أو خمس مرات، ويطلق عليهن في الأدبيات الإسلامية، المربعات والمخمسات، ولم يكن الأمر معيبا أبدا، مثل عاتكة بنت زيد، وهي ابنة عم عمر بن الخطاب، التي تزوجت خمس مرات، من بينهم عمر بن الخطاب  نفسه، وعمر بن العاص، أي ارتبطت بشخصيتين سياسيتين محوريتين، وهناك أسماء بنت عميس التي تزوجت خمس مرات  أيضا، من بين أزواجها حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر وعلي بن أبي طالب (أي بزعيمين لنفس الدولة)  فتعدد زيجات المرأة، كان أمرا معروفا ومقبولا في التراث الإسلامي، بل أحيانا المرأة هي من تطلب الطلاق لتطلب لاحقا الزواج من رجل أخر.

 

 الكثير من الصحابيات، اللاتي تزوجن أربع أو خمس مرات، ويطلق عليهن في الأدبيات الإسلامية، المربعات والمخمسات، ولم يكن الأمر معيبا أبدا،


الطب النفسي وتعدد العلاقات
قبل مناقشة رأي الطب النفسي في تعدد العلاقات وأثرها على الطرفين وعلى الطفل، سأورد لكم قصة حدثت معي أثناء عملي في الإسعاف النفسي بأحد مشافي باريس، فقد طلبت ذات يوم لفحص مريضة نفسية قامت بمحاولة انتحار في اليوم السابق، و بعد إنقاذها، كانت ما تزال مصرة على موقفها في إنهاء حياتها، و حين سألتها عن سبب هذا الإصرار، أخبرتني أنها زوجة و أم منذ أكثر من عشرين عام , و هي تحب زوجها و أولادها و لا تتخيل حياتها من دونهم أبدا، لكنها مؤخرا وقعت في عدد من قصص الحب، و لم تعد تسطيع مقاومة رغبتها في حب أحد الرجال المميزين جدا، لكن زوجها الحالي و أولادها خيروها بينهم و بين عيش قصتها مع حبيبها الحالي، هنا وقعت في مأزق وجودي لا تعرف الخروج منه، فلا هي قادرة على التخلي عن زوجها و أولادها، و لا هي قادرة على نسيان حبيبها الحالي، فقررت الانتحار كي تتخلص من ألم الحيرة هذه، و عندها صرخت (لماذا لا يتفهم زوجي و أولادي أن رغبتي بقصة جديدة لا تعني أني أريد نسيانهم، لماذا لا أستطيع الحفاظ على عائلتي وعيش قصة حبي في نفس الوقت؟ ) 

و بعد انتهائي من عملي، بدأت مناوبة ليلية في الإسعاف في مشفى آخر (وفي الإسعاف النفس في باريس، نشاهد عموما العديد من حالات الانتحار) وفي تلك الليلة شاهدت مريضة حاولت الانتحار، لأنها اكتشفت أن حبيبها الذي تعيش معه منذ عدة سنوات، أنه على علاقة بفتاة أخرى، كانت تلك المريضة تصرخ “كل شيئ رائع بيننا، نعيش أجمل قصة حب، لماذا يطلب الحب في مكان آخر” كانت العلاقة بالنسبة لها بين اثنين فقط، و الدخول في حب مع طرف ثالث نوع من الجنون غير المفهوم أبدا.

هذه القصة تتكرر بشكل أو بآخر دائما في العيادة النفسية، فمفهوم العلاقات مختلف كثيرا بين البشر، وكل إنسان ينظر لها بطريقة مختلفة جدا عن الآخر، و يمكن أن نتخيل هنا كل أشكال الطيف في هذا الاختلاف، من أناس يؤمنون بحب واحد مغلق إلى الأبد، إلى الرغبة في الدخول في علاقات متعددة، كل طرف على حدة، أو علاقات ثلاثية ورباعية، وقد قامت عالمة الاجتماع الفرنسية جانين موسوز لافاو، بدراسة مسحية شملت 65 رجل وامرأة، مثلي وغيري، لتستقصي رأي الفرنسيين في العلاقات الجنسية والزوجية، وضمت تلك الدراسة في كتابها (الحياة الجنسية في فرنسا) la vie sexuelle en France لتكتشف التنوع الكبير في مفهوم العلاقات، وكل طرف لديه مبرراته وفلسفته، فلماذا يصر الغرب (وأقول هنا الغرب، لأنه هو وحده من يصر على تلك العلاقة، بخلاف العادات العربية واليهودية ومجموعات دينية و عرقية عديدة) على الزواج الأحادي؟


الزواج في الغرب
ربما تلخص قصة سقراط مع زوجته زانتيب  جوهر المشكلة في العقلية الغربية، فهذا الزواج كان كارثة على الاثنين معا، فزانتيب كانت رائعة الجمال، افتتنت بأستاذها وهي صغيرة بعمر الخامسة عشر، فتزوجته وهو الدميم الأشعث، ليعيش الاثنين واحدة من أتعس قصص الزواج في التاريخ، ومع ذلك لم يفكر أي منهما بترك الآخر ومحاولة تجربة علاقة جديدة ربما كانت ستجعل الاثنين يعيشان حياتهما بسعادة، لكن النظرة الغربية للزواج ومنذ فجر الحضارة اليونانية، كان يعتبر الزواج مسؤولية أسرية وأخلاقية، وأن زوجة الرجل أصبحت جزء منه وقدره الذي لا فكاك له، وكل شخصيات الأساطير الغربية، كانت لها زوجة واحدة، فلم يعرف التعدد أبدا في الغرب لا من قبل الرجل ولا من قبل المرأة، مهما كان الزواج تعيسا، وقد تماشت عقلية بولس الرسول، مع هوى الغرب في العلاقة الواحدة ومنع الطلاق (ربما هي من أثرت به، فلا ننسى أن الطلاق في المسيحية المشرقية أسهل منه في المسيحية الغربية) ليصبح بناء المجتمع الغربي من عصر الحضارة اليونانية إلى عصرنا الحالي قائم على فكرة الزواج الأحادي مهما كانت النتائج، ولتأخذ هذه العلاقة بعدا اقتصاديا أساسا، من فرض الضرائب وحقوق السكن والمساعدات الاجتماعية، لدرجة أصبح الخروج عن هذه القوانين يترتب عليه تبعات اجتماعية واقتصادية كبيرة، ليست موجودة في بلدان الشرق، نتيجة اختلاف هيكلة المجتمعات بين الحضارتين.


و هنا نصل للسؤال الأهم والمحوري في هذه المقالة
إذا كانت الكثير من الحضارات من إسلامية ويهودية وهندية، تقبل بتعدد الزيجات، وتعدد العلاقات الزوجية، وهي فكرة مرفوضة في الغرب منذ لحظة تأسيسه اليونانية، وقد أقام على الزواج الواحد كل أساطيره وحضارته وقيمه الجمالية وقوانينه الاقتصادية المختلفة تماما عن روح الشرق، فلماذا أصبح الزواج الأحادي هو المسيطر وهو المعيار لما هو جميل وإنساني وحضاري عالميا، حتى لدى الشرقيين رغم عدم صوابيته كخيار ينطبق على الجميع؟ ورغم عدم تماشيه مع قيمهم و عقليتهم، لماذا؟