بقلم حسن كيلاني
العمل الفني: ياسمين دياز 
هذا المقال من ملف ‘الهجرة والغربة’ – هيكل العدد هنا


استغرقت الكثير من الوقت للكتابة عن تجربتي الشخصية في مدينة شيكاغو، الولايات المتحدة، لأسباب كثيرة منها أنني لا أعرف إذا كان أي احد قد يكترث لتجربتي كوني شخص ذو امتيازات. لكن مع الأحداث الأخيرة من طعن وقتل في أوروبا وطريقة تعاطي الحكومات الغربية اليمينية معها أحيانا، وتصوير الإعلام لها أحيانا أخرى. والتي أرجعت صورة الرجل العربي “المسلم” للواجهة كشخص همجي وإرهابي، الإعلام الذي يربط تلقائيا الإسلام كديانة بجريمة القتل الإرهابية إذا كان المجرم مسلما، بينما لا ترى دين الشخص مكتوب في تغطية الإعلام إذا كان مرتكب الجرم غير مسلم، هذه الطريقة في سرد الأخبار أعادت لي ذكريات كثيرة مررت >بها خلال إقامتي في الولايات المتحدة. 


الأميركان دريم
وصلت إلى شيكاغو في مايو 2017 للتدرب في مؤسسة حقوقية هناك من خلال برنامج للزمالة. خلال أول أسبوعين سكنت مع “العائلة المستضيفة” لتهتم بي وتعرفني على المدينة وكيفية التعامل مع الثقافة الجديدة …الخ. وكانت العائلة قد جهزت لي طعام حلال وغرفة صلاة، وقتها كان رمضان. فعندها أحببت الترحيب لكن أجوبتي كانت تتلخص بـ “بالمشرمحي لا تغلبو حالكم” أو “شكرا أنا لست صائما” و”أنا لا أتبع نظام غذائي ديني” بمعنى لا يفرق معي إذا كان الطعام حلال أو لا،  و”شكرا أنا لا أصلي ولا أمارس الطقوس الدينية باستمرار”. وخلال إقامتي معهم أتت مناسبة “يوم الذكرى” وذهبنا إلى بيت جيرانهم فهذه المناسبة بالولايات المتحدة يجتمع الجيران فيها للشواء “هش ونش أمريكي”. فجلست مع الجيران وكان السؤال الأول من مجموعة أشخاص على طاولتي “لماذا تكرهون اليهود؟” صدمت جدا بالسؤال وأجبت “من نحن؟” أجابت امرأة  “يو جايز” تقصد أنتم يا قوم، قلت “تقصدين نحن بالأردن أو نحن العرب أو نحن المسلمين أو الأشخاص من الشرق الأوسط؟”. الإجابة تختلف من منظور إلى آخر لكن الرد بالنهاية لا يوجد به كراهية.
فكان ردها “اوووه ما الفرق بينهم؟”

كنت أشعر أن هذا الرد لا يعجبهم، فأنا لم ألعب دور الضحية الهاربة من “الشرق الهمجي القامع” ووصلت إلى أرض الحرية والأحلام وأبحث عن من ينقذني، فعندما يعلمون أن هناك مساحات للأشخاص الكويرين أو أن هناك تقبل ولو بسيط في بعض الأماكن وأنني كنت أعيش حياة مشابهة في بلدي “العربي المسلم في الشرق” كان يقابل هذا الحديث بالرفض

وبدأت أشرح بشكل بسيط مع الرجوع إلى كتاب الاستشراق للكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد وأيضا تكلمت عن التنوع الديني في دول المشرق (بلاد الشام تحديدا) وحدها. وهنا كان سؤالهم: “ما هو دينك؟”. تذكرت عندها أصدقائي الأجانب “الايكسبات” الذين كانوا يقولوا “في الغرب لا احد يسأل عن دينك وأن هذا السؤال يعتبر فض” فاستغربت جدا من السؤال ولكن مر اليوم على خير. بعد مرور أسبوعين مع العائلة المضيفة، أصدرت بطاقة البنك والأوراق المطلوبة للإقامة وبدأت بالبحث عن شقة، وعند البحث في مكان مثل مدينة شيكاغو ستجد حي لمجتمع “الميم عين كاف” المعروف باسم “بويز تاون Boystown” أحببت المنطقة كثيرا عند زيارتها، يوجد بها حانات ومطاعم ومقاهي ومحال بيع تجارية (عن جنب وطرف). وبدأت مراسلة الناس عبر المواقع المخصصة وخصوصا موقع “غريج ليست” ولكن مر يومان ولم أستلم أي رسالة بعد، فهاتفت صديقي الذي دلني علـى الموقع ليرى إذا ما كنت أنا مخطئ باستخدامه. وهنا كانت الصدمة، قال لي “استخدامك صحيح، لكن اسمك حسن كيلاني وتبحث عن سكن في منطقة للأشخاص المثليين”. وبعدها قام بالتجربة أمامي وكتب نفس رسالتي لكن باسم “مايكل” وكان الرد خلال ربع ساعة. ومن هنا قال لي أنصحك أن تبحث في مكان يتواجد به مسلمين أو عرب أو أي مكان في جنوب المدينة لأن الشمال كله للأشخاص بيض البشرة. ضحكت وقلت له “أين أنا، في جنوب إفريقيا عام 1986!!!”. في نهاية المطاف اخترت أن أسكن في حي مكسيكي يقع بالقرب من الوسط. 


نعلم أنك لست إرهابي 
عندما وصلت إلى شيكاغو ورغم سكني بعيدا عن “بويز تاون” كنت أذهب  له باستمرار على أمل أن أجد فيه مكانا لي، مع أشخاص “يشبهونني كما اعتقدت”. فعند دخولي أي حانة كنت أتحدث مع الناس عشوائيا مع الأشخاص الجالسين هناك (هم في الغالب رجال مثليين أمريكيين ذوي بشرة بيضاء) فكانوا دائما يسألوني في بداية الحديث عن حال المثليين في “العالم الإسلامي” ردي كان ليس هناك شيء اسمه “العالم الإسلامي” وإن كان فأنا لا أعرف كيف هو حال المثليين هناك”. لكني كنت دائما أتحدث عن نفسي، كشخص من مدينة عمّان، أواجه التنمر والتعليقات السلبية وأشعر أن المجتمعات عامة لا يوجد بها تقبل للاختلاف حول العالم ولكن في نهاية اليوم أذهب أنا و أصدقائي وصديقاتي إلى مطعم أو حانة ونشرب ونضحك بأمان، غالبا حالي في مدينة عمّان كحالي في مدينة شيكاغو في ظل العالم الرأسمالي لا أحد يهتم إلا بـأموالك  (معك قرش بتسوى قرش). كنت أشعر أن هذا الرد لا يعجبهم فأنا لم ألعب دور الضحية الهاربة من “الشرق الهمجي القامع” ووصلت إلى أرض الحرية والأحلام وأبحث عن من ينقذني، فعندما يعلمون أن هناك مساحات للأشخاص الكويرين أو أن هناك تقبل ولو بسيط في بعض الأماكن وأنني كنت أعيش حياة مشابهة في بلدي “العربي المسلم في الشرق” كان يقابل هذا الحديث بالرفض وحتى أن البعض كان يتهمني بالكذب لأن له صديق في إيران أو السعودية قد واجه رفض وعنف وتهديد بالقتل.


من عربي علماني إلى عربي مسلم 
عندما كنت في الأردن، كنت أرفض أن أتحدث عن ديني أو ممارساتي الدينية. ببساطة كنت الشاب العلماني المدني الذي يرفض سؤال “إيش دينك؟” فكيف لا وتربينا على أغاني زياد الرحباني وعشت مع والدي الذي خرج من لبنان قبيل الحرب الأهلية. لكن عند وصولي الولايات المتحدة الأمريكية أصبح سؤال “ما هو دينك؟” أو “هل أنت مسلم؟” من أكثر الأسئلة التي تسأل عند شرب الكحول أو تناول طعام غير حلال أو تناول طبق يحتوي على لحم الخنزير. بالإضافة إلى أسئلة مثل “هل هذا حلال في دينكم؟” و”هل هذا مسموح ببلدكم؟”. في البداية كنت أجيب بأنني شخص علماني ولا يتحدث بالدين فكانت إجابتهم “لا تقلق، ممكن تحكي أنك مسلم، نحن نعرف أنك لست إرهابي”. أصبحت أشعر أن عدم الإجابة أصبحت بمثابة أنني أتهرب من السؤال أو أحاول الدفاع عن نفسي من تهمة أني مسلم (على أساس أنها تهمة)، فبعد هذه التجارب أصبحت أجيب أني مسلم أو بمزاح أقول “ّI am a bad Muzlim boy” كنوع من السخرية و بلكنة أمريكية وتجنب فتح الموضوع مجددا للمرة المليون. مع مروري في هذه التجارب وفي محاولة لفهم لماذا الأمريكيون يكترثون كثيرا لمعرفة دين الأفراد، تحدثت مع صديقتي نورينم، هي أردنية تسكن في لوس أنجلوس، فنحن أصحاب منذ أكثر من عقد في عمّان و نعتبر أنفسنا “كوزموبوليتان عمانيز”. فعندما رددت المواقف التي حصلت معي قالت لي عن موقف حدث لها مع سيدة أمريكية بيضاء قدمت لها في حفل مدرسة ابنتها وقالت لنورين “هل تشرب البنت المسلمة الصالحة الكحول؟” فأجبتها نورين “ومن قال لك أنني مسلمة صالحة ومن انتي لتحاسبيني؟”. وذكرت لي نورين عدة مواقف اذكر منها كانوا يقولون لها أنها “صاحبة اللكنة الغريبة”. وأيضا زميلتها تذهب تتغذى معها في بريك الغداء و تقول “أنا لا أكره العرب وكل البشر واحد”. اضافت نورين وقالت لي “لا تقلق عزيزي وجودنا حولهم وجه لوجه بعيد عن الصور النمطية في الإعلام والصور البشعة من شاشاتهم الإخبارية يغالط ويتحدى أفكارهم فلذلك توقع ردة فعل عنيفة”. 


حالة من التصالح مع الماضي والانتماء
لقد ترعرعت وأنا  أشاهد أفلام ومسلسلات هوليوود التي تتحدث عن الحرية مثل Sex and The City و Queer As Folk وModern Family وغيرها. لم يخطر ببالي قبل أن أنتقل للعيش في مدينة شيكاغو أن هذه الأفلام والمسلسلات تتحدث عن حياة الأشخاص المرفهين من أصحاب البشرة البيضاء وأنها محدودة بعدد قليل من الولايات. فلم أرى فيلما يتحدث عن حياة الأشخاص المثليين العرب أو المهاجرين ومأساتهم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية أو مسلسل عن المشردين من مجتمع الميم حيث ما يقارب  40٪ من الشباب من مجتمع الميم بلا مأوى بسبب ميولهم الجنسية  في الولايات المتحدة الأمريكية. حتى عندما تقابل أشخاص عرب في المهجر ستجد نوع من الإحباط لديهم/ن أو خيبة الأمل في الحلم الأمريكي أو الحياة المثالية التي تخيلوها لمجتمع الميم في الدول الغربية. بعد عام على العيش في مدينة شيكاغو عدت إلى مدينة عمان وأنا أرى الأشياء بنظرة أخرى. حيث أصبحت أقدر أصدقائي أكثر، ربما عددهم قليل لكن نفهم بعض جيدا، نضحك على نفس النكت والميمز (memes) و نستخدم عبارات مقتبسة من مقابلات هيفا وإليسا ونسمع روبي ونغني معها “انت عارف ليه؟” بصوت عالي نضحك ونرقص. أصبحت أقدر جلسة السطوح أو البرندة مع الأرجيلة ونطلب بما تبقى من نقودنا وجبات شاورما. ممكن اصبت باحباط كبير عندما عشت في الولايات المتحدة وزاد وزني حوالي 22 كيلو من حبسة البيت لكني ممتن لهذه التجربة. التجربة التي علمتني أن أستوعب ما لدي من امتيازات. بسبب هذه التجربة أنا أرى نفسي في عمان الشاب “الكوزموبوليتان” المدني والذي يتحدث لغتين بطلاقة ولديه خبرة دولية، ليس كما صنفوني  بالغرب الشاب العربي المسلم ذو اللهجة الغريبة القادم من المشرق.