بقلم: موسى الشديدي
العمل الفني: ياسمين دياز
تحرير: خالد عبد الهادي

 

اليوم صارت مسيرة الفخر جزءا لا يتجزأ من “حقوق مجتمع الميم1 كما يتم الترويج لها، حتى إني أعرف الكثير من المثليين -الناطقين بالعربية- الذين يسافرون إلى دول أوروبية للمشاركة في المسيرة، وبعد كل عام أجد عدد من ينظر للمسيرة على أنها بالفعل حدث مهم يجب المشاركة فيه وتعميمه على جميع دول العالم في ازدياد، حيث قال المخرج اللبناني الأصل زهير كريدية في حوار معه عام 2019عن رحلة طلبه للجوء في لندن “مع شديد الأسف الحكومة اللبنانية ألغت أول مسيرة فخر في بيروت السنة الماضية، معرفة أنهم لا يمكنهم الاحتفال بذات الطريقة التي نحتفل بها هنا في المملكة المتحدة مؤلم للغاية، مسيرة فخر مثلية في بيروت سيكون أمرا جنونيا ورائعا، أنا أحلم أن يصبح حقيقة يوما ما“، حتى أن مؤسس جمعية عراق كوير التي تعرف نفسها على إنها الجمعية “الوحيدة المختصة بقضايا الجنسانية والجندر في العراق” قال في مقابلة له عام 2017 مع oneyoungworld بأسف “أننا لا نستطيع أن ننظم مسيرة فخر في العراق في الوقت الحالي” والحكومات الغربية تقوم بإرسال الدعوات للناشطين/ات وتأمين مصاريف السفر والإقامة على حسابها من أجل منحهم “فرصة” المشاركة في مسيرة الفخر في الدول الغربية، بما إن دولهم “المتخلفة والرجعية”2 لا تنظم مثل هذه المسيرات.

وبسبب انتشار النقاشات المتعلقة بمسيرة الفخر الغربية بين أبناء جيلنا في البلاد الناطقة بالعربية، شعرت بأهمية الكتابة عنها، في هذه المقالة أحاول استعراض التطورات الجوهرية التي طرأت على “مسيرة الفخر” وعقد مقاربة بينها وبين ظاهرة “عروض المسوخ” التي انتشرت في تاريخ الثقافة الغربية لفهم الوسائل التي تعاملت بها تلك الثقافة مع علنية الأجساد غير المعيارية عبر تاريخها.

مسيرة الفخر الأولى كانت شغباً
في نهاية ستينيات القرن الماضي  في الغرب ظهرت حركات مثلية راديكالية مطالبة بتغييرات جذرية في المجتمع وتفكيك الأبوية الرأسمالية وما إلى ذلك، سرعان ما تم تدجينها وتحوليها لحركات ليبرالية تحاول خلق فقاعات وردية داخل النظام الأبوي الرأسمالي دون تفكيكه، “وأصبح التقويم المثلي الغربي يتكوّن من حدثين رئيسيْن ومركزييْن، هما يوم (مسيرة) الفخر العالمي واليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية“، من الجدير بالذكر أن هذه الحركة اعتمدت العلنية والظهور كاستراتيجية وتكتيك لتحقيق أهدافها، ولفهم هذا الكلام بشكل أفضل يمكننا النظر إلى تاريخ ما يسمى اليوم بـ”مسيرة الفخر” pride parade والتي بدأت كأحداث شغب في يوم 28 يونيو عام 1969 بعد غارة قام بها رجال الشرطة على حانة ستونوول التي كان يرتادها غير معياريـ/ـات الجنسانية والجندري في مدينة نيويورك والتي يشار إليها باسم “شغب ستونول” stonewall riots، لكن يبدو إن هنالك فرق بين تسميتي “شغب” و “مسيرة” أليس كذلك؟



شغب ستونول ألهم الناس للخروج إلى الشوارع والمطالبة بتغييرات جذرية ضد الرأسمالية والأبوية لصالح الحريات الجسدية والجنسية، سرعان ما تم تحويله عبر السنوات إلى فرصة تسويقية مثالية، ما يمكن أن نشاهده اليوم منصات متحركة بالتنظيم مع الحكومات ورجال الشرطة يتم استثمار الملايين فيها، وتروج فيها العديد من الشركات منتجاتها بألوان القوس قزح التي باتت ترمز لـ”مجتمع الميم” من ضمنها الشركات ذاتها المتورطة بتجارة الأسلحة وتمويل الحرب وتدريب رجال الشرطة في الدول التي تعتقل أفراد مجتمع الميم، كما هو الحال في بعض دول منطقتنا.
وبدأنا نسمع أصوات تعترض على هذا التحول في الغرب وهذا الاستحواذ الليبرالي الرأسمالي على الحراك الراديكالي الذي بدأ بتمرد قمعه الشرطة لا كمهرجان يشارك فيه الشرطة والجنود ومروجي الحرب بشكل احتفالي.

لا جديد تحت المسخ
بدأ الغرب في القرن السادس عشر بجمع الأفراد غير المعياريين/ـات من ذوي الإعاقات العقلية والجسدية كالأقزام والعمالقة طوال القامة أو من يعانون من تضخم أو ورم ما وأصحاب التشوهات الخلقية والجينية و النساء ذوات اللحى والتوائم الملتصقة والأشخاص ذوي/ات الوزن الزائد وذوي/ات القدرات الشاذة على رفع الأوزان الثقيلة أو تحمل الالم (مثل المشي على المسامير أو الجمر الملتهب أو بلع السيوف) والأجساد مقطعة الأطراف والمعاتيه وذوي المشكلات النفسية والمهرجين3 وبما إنهم/هن في عجز عن العمل لصالح المؤسسة الرأسمالية ودر الأرباح عليها، إما لعدم امتلاك القدرة الجسدية المطلوبة أو بسبب خوف الناس من منظرهم/هن، كان يتم تجميعهم (شرائهم أو خطفهم في بعض الأحيان)، وخلق ما يعرف في الثقافة الغربية بـ”عرض المسوخ”freak show حيث يأتي الناس في الأغلب داخل خيمة تشبه السيرك (إن لم يكن واحدا بالفعل) يدفعون النقود لمشاهدة كل هذه “الانحرافات والبشاعات والتشوهات” العجائبية! يمكنك سماع الشهقة مع كل “مسخ” يخرج إلى خشبة المسرح، أزيز الخوف والفزع، أشبه بفيلم رعب!


بين القرن التاسع عشر والعشرين وصلت عروض المسوخ إلى ذروة شهرتها في الغرب وبشكل خاص انجلترا والولايات المتحدة، وتزايد إقبال الجماهير عليها حتى إن سيرك 
the Ringling Bros حقق أعلى الأرباح من إيرادات “عرض المسوخ” الخاص به وتخبرنا القصص معاناة مؤدي/ات هذه الفقرات، فلم يتم التعامل معهم كبشر على الإطلاق، وهكذا حولت الرأسمالية بنجاح الأجساد غير المنتجة إلى سلعة يتم دفع النقود للتفرج عليها، مع حلول القرن العشرين تم تطبيب اللامعيارية الجسدية والظهور بتفسيرات طبية لها والاستحواذ على أجساد “المسوخ” للمؤسسة الطبية التي بدى أنها ستحقق أرباح أكثر من خلالهم، وافقدت المؤسسة الطبية بشروحاتها الجمهور وهج العجائبية والغموض الذي كان يذهب لحضور العرض بموجبه.

بالتأكيد هناك اختلاف بين كيفية تعاطي الجمهور مع الأجساد المعروضة في عرض المسوخ عن تعاطيه مع أجساد أفراد مجتمع الميم في مسيرة الفخر، “المسخ” كان يتقاضى أجرا ماديا بسيطا مقابل أدائه، بينما أفراد مجتمع الميم يدفعون النقود للتمكن من الأداء في مسيرة الفخر، إلا أنني لست بصدد المقارنة هنا، فالنقطة الأهم هي  السماح لهذه لأجساد “المسوخ الشاذة” غير المرحب بها في المساحات العامة (تماما كأجساد مجتمع الميم) بالعلنية والظهور(في عروض المسوخ) بشرط أن تدر الأرباح، ولم تكن العلنية تعني أي شيء إيجابي على الإطلاق، وهذا ما يجعلني اتسائل إن كانت عملية لبرلة الشغب (أي جعله ليبراليا) وتحويله لمسيرة تسويقية بألوان القوس قزح هو ببساطة محاولة تحويله إلى “عرض مسوخ”؟

خصوصاً إننا نرى مسيرة الفخر اليوم تحشد جموع مجتمع الميم بشكل مهرجاني سنوياً، مع كل إعلانات المنتجات المغلفة بألوان القوس قزح وكل النقود التي ندفعها لاستئجار المنصات المتحركة، الجمهور الذي يتفرج علينا، الملابس التنكرية الشبيهة بملابس السيرك، ترسيخ فكرة اختلافنا عن باقي المجتمع بدلا عن التشابهات، لا يقول إلا إننا نحن “المسوخ الجدد”، إن لم يكن كذلك فما الذي قد يفسر كل هذه الكمية من الموسيقى الاستعراضية والحاجة للأزياء التنكرية المسرحية والأقنعة وتلوين الوجوه، والذي يحمل معاني إخفاء الهوية لا العلنية ولا الظهور.


ربما قبل التحسر لاستيراد مسيرة الفخر إلى عالمنا يجب علينا دراسة تاريخها، لماذا يستهيم مجتمع الميم الناطق بالعربية نموذج “مسيرة الفخر” لا ما أنتجها في “شغب ستونوول”؟ وفهم القدرة الاستحواذية للرأسمالية على علنية الأجساد غير المعيارية في التاريخ الغربي، من خلال تسليعها وجعلها مصدرا للأرباح، إن تحويل “شغب ستونوول” لفقاعة ليبرالية رأسمالية إنما يمثل إهانة شديدة  لكل الأرواح الشجاعة التي بدأت العصيان كمحاولة راديكالية لإحداث تغييرات من أجلنا نحن الأجيال اللاحقة، وأعتقد أن واجبنا هو المحافظة على هذا الإرث النضالي وحمايته من السرقة والاستحواذ، إن كانت العلنية بالفعل واحدة من أهدافنا في المنطقة فيجب أن نختار علنيتنا بأنفسنا وفق شروطنا نحن، ووسائلنا النضالية المحلية، أجد أن نقاش التحولات التي طرأت على مسيرة الفخر مهم جدا قبل الحديث عن استيرادها، خصوصاً بعد أحداث “فخر بيروت” وتنظيم أول أسبوع للـ”فخر المثلي” في بيروت عام 2017 والذي نصّب نفسه كـ”الفخر المثليّ الأول في العالم العربي” في ظل حماية قوات الأمن ذاتها التي كانت منشغلة بإعتقال أفراد مجتمع الميم باقي أسابيع السنة، وفق المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني المجرم للعلاقات الجنسية التي تعتبر “خارجة عن الطبيعة”، والذي وضعه الاستعمار الفرنسي عندما كانت لبنان مستعمرة فرنسية، تماما كما كانت الشرطة الأمريكية تحاول اعتقال أفراد مجتمع الميم في ستونوول.