English

بقلم: رنا الطويل
صور من مخطوطات عدة
ترجمة: هبة مصطفى
هذا المقال من عدد عقدة الواوا

تبهرني جزيرة الواق واق الأسطورية لأبعد الحدود، وعندما قرأت عنها لأول مرة، كنت أبحث عن خرائط عربية من العصور الوسطى في محاولة للتعرف على تصورات بديلة للمعلومات والجغرافيا، وكان اسمها منقوشاً بخط صغير في الركن الشمالي الشرقي لخريطة عثرت عليها؛ فافترضت أنها اسم قديم لمدينة معاصرة.

بعدها بأشهر، علمت أن الجزيرة في واقع الأمر كناية عن الجنة، الأرض التي لم تطأها قدم، وموطن بطل حكاية “ابن طُفيل” الفلسفية “حي بن يقظان” (حوالي 1160 م)، وفي هذه الحكاية، تتعرف الشخصية الرئيسية على دورات الحياة من خلال الحياة النباتية والحيوانية بالجزيرة، وتتوصل إلى فهم الخلود والألوهية من خلال الملاحظة فحسب، مما يدل على أن الإنسان يثبت وجود الله من خلال الاستنباط بدلاً من النصوص الدينية أو التعاليم المجتمعية.

كان لقائي الثالث وغير المتوقع بالجزيرة – والأكثر تغييراً لحياتي – من خلال شعر ولاّدة بنت المستكفي (1001-1091 م)، وللوهلة الأولى، يبدو ألا علاقة للبيتين التاليين بالجزيرة.

إنّ ابـن زيـدون له فـقـحة    تـعـشـقُ قـضـبـان السراويلِ
لَو أبصرت أيراً على نخلة    صارَت منَ الطيرِ الأبابيلِ

هذان البيتان جزء من قصيدة هجاء يُعتقَد أنها كتبتها رداً على ما بدر من حبيبها السابق – الشاعر ابن زيدون – من إساءة لها بعد أن توترت علاقتهما عندما ندد علناً بتجاربها الجنسية المتنوعة، وقد كانت علاقتهما أبعد ما يكون عن التقليدية منذ البداية؛ فقد كانت ولاّدة متعددة الشركاء والشريكات وكويرية، بينما تجاوز ابن زيدون هذه العلاقة بممارسة الجنس مع الرجال، وفي هجائها هذا، تسخر ولاّدة من كويرية ابن زيدون باستخدام إشارة دينية إلى سورة الفيل من القرآن الكريم التي تحكي قصة هزيمة جيش أبرهة بطير أبابيل أرسلها الله عليهم، إذ تشبه اشتهائه للرجال بالتركيز الشديد للطيور في هجومها على الجيش.

عبارة “أيراً على نخلة”، مع هذا، هي الرابط غير المباشر الذي يعيدنا إلى الجزيرة؛ فعندما بحثت لأتعرف أكثر على سياق هذين البيتين، وجدت أن السرديات السائدة عن أشجار الجزيرة تتمحور حول شجرة ثمارها نساء عاريات تتدلين من شعورهن، ويُقال إن وجوههن، وروائحهن، وأجسادهن، وعيونهن، وأياديهن، وأقدامهن، وشعورهن، وأثدائهن، ومؤخراتهن، وفروجهن في غاية الجمال، وهو ما يمنح الرجال متعة تفوق مجامعة النساء العاديات، ويُقال أيضاً إن هؤلاء النسوة يصحن “واق واق واق” حتى وفاتهن خلال يوم أو يومين بعد قطع شعورهن وفصلهن عن الشجرة التي تحملهن، وإنه يمكن لمن يقطفهن ممارسة الجنس معهن حتى يحين أجلهن.

خريطة لرسام الخرائط المغربي الإدريسي

في نهاية المطاف، أصبحت الجزيرة مقبولة على نحو بدأ يظهر معه اسمها على الخرائط باعتبارها مكاناً حقيقياً يطمح الرجال للوصول إليه يوماً ما، سُمي على اسم أصوات معاناة النساء.

“إن الله قد وسمني بجمال أحببت أن يراه الناس فما كنت لأستره”

عائشة بنت طلحة

كانت معظم مجتمعات العصور الوسطى العربية (700-1800 م) تمنع الرجال والنساء من الاختلاط؛ فغالباً ما كان يحكم هذه المجتمعات حكام دينيون يستمدون سلطتهم من حكمهم المقدس وحنكتهم السياسية الاقتصادية، وكانوا يقررون ما هو مباح وغير مباح أمام الله، ولم تلق أحكامهم أي اعتراض لاعتبارهم حكاماً مقدسين، فأي بشر يمتلك الحق في الاعتراض على كلامهم أو كلام الله؟

اختلفت طبيعة هذه التوقعات المجتمعية، مع هذا، كما هو الحال اليوم، اختلافاً كبيراً باختلاف الطبقات؛ فقد كانت نساء الطبقة العليا يتمتعن بالثروة والسلطة لعيش حياتهن بحرية أكبر وبمنأى عن أحكام المجتمع ورقابته بسبب قربهن من الحاكم الإلهي، وفي المقابل، لم تتمتع نساء الطبقات الأدنى بامتياز عدم الاختلاط بالرجال لحاجتهن إلى العمل، وكان هذا حالهن سواء كنّ يعملن تاجرات، أو مزارعات، أو قيان (مجموعة من النساء كنّ جزءاً من بلاط الحاكم، لكنهن في الواقع كنّ من الإماء، يُمتلكن ويُبعن ويُشترين)، وقد حُرمت القيان بسبب وضعهن كأملاك من حقوقهن الأساسية، مثل التملك والتقاضي، اللاتي تمتعت بها نساء الطبقة العليا والوسطى، وعليه، كانت نساء الطبقة الوسطى هنّ من لزمن منازلهن لأداء واجبهن الديني المتمثل في عدم الاختلاط بالرجال لحماية فضيلتهن وتفانيهن في التقوى، لذلك، وفي هذا السياق، غالباً ما انخرط الرجال والنساء من الطبقة العليا والمتوسطة في علاقات مثلية قبل الزواج؛ فلم يمكن بإمكانهم/ن الاختلاط إلا بالجنس نفسه قبل الزواج وكان التخلي عن جميع العلاقات الجنسية قبل الزواج أمراً بعيد المنال كما هو الحال الآن.

لوحة لسيدة فارسية من العصر القاجاري

من المذهل اكتشاف ما يمكن للخيال الجمعي اختلاقه للثقافات المختلفة، وما هو مزعج أكثر، مع هذا، الأشجار التي تحمل نساء على جزيرة الواق واق؛ ففي هذه الأسطورة، تُصوّر النساء على أنهن عاجزات عن تحقيق أكثر من مجرد توفير متعة غير رضائية قبل موتهن، وفي “حلم اليقظة” هذا، يُختزَل وجود النساء إلى مجرد أغراض جنسية مؤقتة تخلو من المحظورات والتعقيدات المجتمعية التي ترتبط بالنساء الحقيقيات، وتصوير النساء على هذا النحو محبط للغاية، ناهيكم/ن عن كونه مهيناً للنساء، سواء في ذلك الوقت أو الآن.

هذه النسخة من الجزيرة باعتبارها جزيرة متعة لإرضاء الرجال غير منطقية، مقارنةً بتصورها الأصلي المتمثل في كونها جزيرة يعثر فيها المرء على الله، ويتأكد هذا الأمر عندما نعلم أن الإنتاج الثقافي للنساء في الفترة بين عامي 700 و1800 م كان ثرياً بالاستقلالية وقوة الشخصية، وعلى الرغم من أن معظم المعلومات المتاحة عن تلك الفترة الزمنية غامضة نسبياً، إلا أنه من اللافت للنظر أن البحث عن تلك التمثيلات الكارهة للنساء أسهل من البحث عن شعر المثقفات الثوريات البارزات في تلك الحقبة – ولاّدة بنت المستكفي، وصفية البغدادية، وهند بنت النعمان، وحفصة الركونية، وغيرهن الكثيرات – اللاتي كتبن عن موضوعات تراوحت من تعدد الشركاء/الشريكات وصورة الجسد إلى الشوق المشتعل بعد وفاة المعشوق.

أنا فتنة الدنيا التي فتنت حجا     كل القلوب فكلها في مغرمِ
أترى محياي البديع جماله     وتظن يا هذا بأنك تسلمِ

صفية البغدادية

من ناحية أكثر إيجابية، يدل هذا القبول الواسع لوجود هذه الجزيرة باعتبارها كياناً حقيقياً على مدى انتشار الخطاب الجنسي في الحياة اليومية للعرب في العصور الوسطى، ومع هذا، فإن الفجوة القائمة بين انفتاح الماضي ومحافظة الحاضر حول هذه الموضوعات يدفعنا إلى إدراك قدرة الاستعمار والنظام الأبوي على إغراق أصوات النساء عبر التاريخ والخطوة الإضافية للتلاعب بنا للاعتقاد بأن المكانة الوحيدة لأسلافنا من النساء في المجتمع هي كونهن هدفاً لرغبة الذكور.

يبرز تدمير المشروع الاستعماري للثقافات والتقاليد في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا بصفة خاصة عندما يتعلق الأمر بالجنسانية؛ فاللغة العربية لا تزال تتسم بنشاز وصعوبة مثيرين للقلق فيما يتصل بمناقشة أحد أكثر الأجزاء طبيعية في الحياة؛ فاليوم، نجد أن الكلمات المتعلقة بالجنسانية في اللغة العربية مستمدة من نظيراتها في اللغة الإنجليزية عوضاً عن التاريخ الجنسي للمنطقة الذي يمتد على مدار قرون، فعلى سبيل المثال، كلمتا “المثلية” و”الغيرية” ترجمتان حرفيتان للبادئتين “homo” و”hetero” في كلمتي “homosexuality” و”heterosexuality” في الإنجليزية وليس لهما أي صلة تُذكر بالجنسانية.1

هذه الترجمات منخفضة الجودة غير ملائمة على الإطلاق عندما يكون متوقعاً من الناس استخدامها لتمثيل أنفسهم/ن، وإيجاد السلوى، وبناء العلاقات مع الآخرين، ويتطرق كتاب “بريد مستعجل” (2009) في مقدمته، وهو مجموعة من القصص الحقيقية لنساء مثليات، ومزدوجات الميل الجنسي، وكويريات، ومتسائلات عن هويتهن الجنسانية، وأشخاص عابرون/ات، إلى هذا القصور، وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب باللغة العربية الفصحى ومحتواه باللغة العامية، فإن التمهيد يشرح أنه قد كُتب باللغة الإنجليزية لأن جميع المساهمين/ات لم يجدوا/يجدن أن بمقدورهم/ن تعريف أنفسهم/ن بالكلمات “مثلية” و “كويري/ة” بالإنجليزية ولم يشعروا/يشعرن بأنهم/ن مرتاحون/ات أو ممثلون/ات في لغتهم/ن، ولتصحيح هذه الفجوة اللغوية، كانت هناك جهوداً كثيرة لصياغة مصطلحات جديدة تصف بدقة التفضيلات الجنسية للأشخاص في السنوات الأخيرة، وعوضاً عن البدء من الصفر، أو صياغة كلمات عربية مشتقة من لغات أخرى، هناك محاولات لإحياء كلمات من التاريخ الجنسي الثري لمنطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا لأنها متأصلة أكثر في الثقافة وغير ملطخة بصبغة استعمارية، وفي حين أن هذه الجهود قد بدأت تحرز تقدماً، إلا أنها لم تحظ بعد بالانتشار والقبول الاجتماعي في اللغات العامية بالمنطقة حتى وقت كتابة هذا المقال.

يمكن إرجاع أميتنا الجنسية أيضاً إلى فرض استعماري مؤذٍ آخر، ألا وهو مفهوم الهويات الجنسية بدلاً من الممارسات الجنسية، الذي كان المعيار السائد عبر تاريخ المنطقة، ويتأتى الفرق بينهما من “كشف” الطب النفسي الغربي في القرن العشرين عن أن التفضيلات الجنسية للشخص جزء لا يتجزأ من هويته/ا، بمعنى أنه يؤثر على كل جانب من جوانب حياته/ا وجزء دائم منه/ا، وقد فُرضَت هذه الأيديولوجية على الأشخاص في المنطقة الذين/اللاتي كان لديهم/ن إرث طويل من المرونة الجنسانية؛ فلم تكن هناك كلمات في اللغة العربية تعبّر عن “المثلية”، أو “ازدواجية الميل الجنسي”، أو “الغيرية” لأنها لم تكن مفاهيم موجودة وقائمة؛ فهذه المصطلحات تشير إلى هويات وليست ممارسات.2 هناك، مع هذا، عدد هائل من الكلمات التي شهدتها مختلف الإمبراطوريات الإسلامية التي تصف كل ممارسة جنسية يمكن تصورها وتصنفها؛ فالتصنيف المفرط جزء لا يتجزأ من ثقافة المنطقة، وهو الأمر الذي مكّن مناقشة موضوعات مختلفة مناقشةً نقدية، كما نرى في المخرجات الأدبية للمنطقة فيما يتعلق بالطعام، والفلسفة، والدين، والعلوم، والطب، وعلم الفلك، وغير ذلك.

قضيب طائر يدخل في فرج طائر

على الرغم من أننا لسنا معفيين من اللوم اليوم، فمن غير المعقول والمستحيل فصل الوضع الحالي للجنسانية في المنطقة عن تركة الاستعمار، وترسم الدرر التي نجت من المنطقة الناطقة بالعربية في العصور الوسطى، على الرغم من الجهود التي بُذلت للقضاء عليها، صورة حية لأدوار النساء ومتعتهن بطرق متنوعة ودقيقة، مما يقدم شيئاً من التعويض، وعلى الرغم من استحواذ التخيلات الذكورية على أصوات النساء والفئات المهمشة الأخرى، فما زلت أجد أن لقاءاتي المتكررة مع جزيرة الواق واق صدفة غريبة؛ فقد فتحت لي الباب على عالم استطاعت فيه النساء (أحياناً) التحدث والتصرف بحرية ودون الخوف أو التعرض للإدانة أو الانتقام.

يُكَذِّب الإغفال المتعمد والثابت لهؤلاء النساء، وإسهاماتهن، ورغباتهن في التاريخ المعترف به، على يد النظامين الأبوي والاستعماري على حد سواء، واقع أنهن، مع ذلك، كنّ نتاج محيطهن الاجتماعي، فقد تواجدن بالطريقة التي كنّ عليها نتيجة لبيئتهن وسياقهن، وسواء كنّ رجعيات، أو ثوريات، أو ممثلات لعصرهن، فقد تواجدن، وتحملّن، وعبّرن عن أنفسهن بحزم، وهذا يجب أن يكون كافياً لتبرير وجودهن النسخ المعترف بها من تاريخنا، أو على الأقل يجعلهن جديرات بمساحة أكبر من تلك المخصصة لنساء جزيرة الواق واق، وفي نهاية المطاف، بالنظر إلى ما بذله الرجال من جهد حثيث للقضاء على الأصوات الحقيقية للنساء القويات المعاصرات لهم، فهل سنصدق اختزال الرجال لنساء جزيرة الواق واق إلى صانعات للضوضاء وكأغراض جنسية أو حتى نحتفي بذلك؟

  1. سحر عامر، “المثليات وأشباه المثليات العربيات في العصور الوسطى“، مجلة تاريخ الجنسانية 18(2)، 2009: 224.
  2. لمرجع السابق.