بقلم زين يوسف
العمل الفني: عود نصر

هذا المقال من عدد عقدة الواوا

“عيب” و”حرام”، كنت أسمع تلك الكلمتين في كل مرةٍ يتم فيها إلقاء القبض علي مُتلبِّسة بتهمة النظر إلى جسدي الطفولي العاري محاولةً استكشافه..و بالرغم من أني حينها لم أكن أتجاوز السادسة أو ربما السابعة من عمري، إلا أن تلك الكلمتان كانتا لا تُنطقان أبداً من دون تلك النبرة الغاضبة التي تُنذرني بأن محاولاتي الطفولية الساذجة لاستكشاف ذلك الجسد الذي أقيم به ما هي إلا جريمةٌ تستوجب العقوبة من والديَّ في حال تم القبض علي مُتلبِّسة بالجُرم المشهود.. كنت بإدراكي الطفولي لا أعي لماذا قد يكون من “العيب” و”الحرام” أن أتلمَّس طريقي نحو تفاصيل هذا الجسد الذي يبدو أنه يخصني وحدي..لهذا -و بعيداً عن ذلك الأمر المعقد على إدراك الطفل الذي كُنته- كان هدفي الأكبر حينها هو استكشافي ومحاولة معرفة تفاصيلي، وهل تشبه تفاصيل جسد شقيقي أم تختلف عنها؟؟.. هل يوجد في جسده أمراً لا أملكه ليجعل لديه من الامتيازات ما يفوق تلك التي مُنحت لي؟؟.. هل تتشابه جميع الأجساد ؟؟.. هل يمكنني استبدال جسدي -إن كان يحمل شائبةً ما- في محل اللُعب والحصول على جسدٍ آخر جديد خالٍ من العيوب؟؟.. هل وهل وتليهما هل.. تساؤلاتٌ كثيرة كانت تتسابق نحو عقلي لتثير عاصفةً من الحيرة لا تهدأ تجاه جسدي وأجساد الآخرين.. تساؤلاتٌ لم يمكنني معرفة الإجابة عليها في حضرة “العيب” و”الحرام”.. تساؤلاتٌ كانت مُعلَّقة من دون إجاباتٍ واضحة، ما جعلني أقرر البحث عن إجابات لها بنفسي ولكن في سريةٍ تامة، وبعيداً عن نظرات والدتي المهددة المتوعدة في كل مرةٍ تراني فيها أنظر لجسدي من تحت تلك الملابس التي تحجبه عني.

مهمةٌ استكشافية
حينها كنت غارقةً في حماسي الشديد نحو المشاركة في أي لعبة سأرى فيها جسدي أو أجساد أقراني دون أن تتم معاقبتي..هكذا أصبحت ألعاب مثل لعبة الطبيب هي نافذتي الوحيدة نحو ممارسة المقارنة الجسدية مع الآخرين.. فكل ما كان يتطلبه الأمر هو أن يرتدي أحدهم تلك اللعبة التي على هيئة سماعة الطبيب مُتقمصاً دوره بينما يستلقي أحدنا أمامه مُنتحلاً دور المريض حتى يقوم بتفحص جسده بحثاً عن أي علةٍ ما نتوهمها فقط لتستمر لعبة انتحال الأدوار تلك.. كان ذلك النوع من الألعاب هو المساحة الوحيدة التي لا تتواجد فيها أي تهديداتٍ تقمع فضولي الشديد نحو جسدي.. هذه هي مساحتي الآمنة للقيام بالكثير من الاستكشاف لأنها تحدث بمشاركة آخرين ولهذا لن أعاقب لوحدي أبداً دوناً عنهم. 

و كم كانت خيبة أملي كبيرة عندما اكتشفت أن جسدي لا يختلف كثيراً عن أجساد الأخريات.. ذات التفاصيل وإن اختلف لون جلودنا قليلاً.. أما عن أجساد الصبيان فلا يوجد أي اختلافٍ يُذكر سوى ذلك الشيء الغريب الذي يتواجد بين سيقانهم وكأنهم يمتلكون نتوءاً خُلقياً.. ولكن ذلك الاختلاف البسيط بين أجسادنا وأجسادهم هو ما يجعل ركوب الدراجة من الأمور المباحة لهم مثلاً، في الوقت الذي مُنعت فيه من القيام بذلك في سنٍ مُبكرة.. ذلك الاختلاف البسيط هو ما جعل والدتي تمنعني تقريباً من الخروج للشارع بينما كانت لا تمارس فرض الإقامة الجبرية على شقيقي الذي كان بإمكانه التبختر في الطرقات حتى وقت متأخرٍ من الليل.

ذلك الاختلاف منحه العديد من الامتيازات التي جعلتني أمقت جسدي وأحسده على امتلاك ذلك الجسد ذو النتوء الخُلقي.. كنت أكبر ومع كل سنةٍ تُضاف إلى عمري تزداد قيود “العيب” و”الحرام” من قِبلِ أسرتي.. تلك الأسرة التي كانت -كأغلب أُسر الطبقة الدُنيا أو الأقرب إلى خط الفقر- تستمد كل ما تؤمن به من خلال منظومة مجتمعية ودينية وتعليمية بل وحتى حكومية تخضع بلا أدنى مقاومة لسيطرة تيارٍ متشدد دينياً.. لهذا لم أكن أدرك أني حينها لم أكن أقاتل “العيب” و”الحرام” وحدهما بل كنت أقف وحدي أمام دولةٍ بأكملها ليس من المسموح لي فيها إلا أن أكون شخصاً آخر لا يشعر بالانتماء إلى ذاته..لم يكن من المسموح لي إلا أن أكون طفلة في العاشرة من عمرها يتم إعدادها للحرث والنسل.

العمل الفني: عود نصر

 لهذا كانت تلك الاختلافات الجسدية البسيطة بيني وبين شقيقي تمزقني لأنها تسلبني الأريحية في التعامل مع جسدي الذي كنت أشعر بأنه جسد شخصٍ من المغضوب عليهم.. ومع تلك القيود كانت دائماً تأتي تلك التحذيرات المُبهمة التي تثير جنونك كما فضولك.. هناك جزء من جسدي لا يجب علي أبداً مُلامسته.. هناك جزءٌ مني يخبرني البالغون بوجوب تعليق عبارة “ممنوع اللمس” على بوابته لأنه ما يحدد إن كنتُ فتاة جيدة أم سيئة.. هناك جزء مني كان الجميع يحذرني من الاقتراب منه وكأنه بوابة الجحيم التي تنتظرني لأفتحها.. ولكنه -ويا للمفارقة- أثار بداخلي مشاعر السعادة ولطافة شعور “الدغدغة” عندما قام أحدهم بملامسته وهو يخبرني مُحذراً بأن لا أخبر أي شخصٍ بما فعله.. هذا الجزء المهم جداً من جسدي كان هو سبب جنون والدتي وإصابتها بحالةٍ من الهيستيريا وهي تُلقي بي أرضاً بكل عنف لتقوم بفحصه لتتأكد من “سلامته” دوناً عني بعد أن أخبرتها بما فعله ذلك الشخص.

و لكن بالرغم من تلك التحذيرات المُبهمة والتجربة الصادمة تعلمت أمراً مهماً، وهو أن هذا الجزء مني قد يحمل لي العديد من الأمور كاللذة..السعادة المؤقتة..الدغدغة..الألم..ذات الجزء يقودني نحو العديد من المشاعر المتناقضة ليس بآخرها الإحساس المُقيم بالذنب.

الصراع مع الرب
في فترة المراهقة حلَّ ضيفٌ جديد ليكبلني تجاه جسدي..كنت قد أعتدت على وجود “العيب” و”الحرام” كضيفين ثقيليَّ الظل يمتلكان جزءاً مني ولا أملك على التخلص منهما بسهولة، حتى طرق الباب ضيفٌ أشد ثقلاً منهما وهو “الذنب”.. الذنب تجاه قبولي لفكرة الانتماء لهذا الجسد الذي لا أشعر أنه يشبهني كثيراً.. الذنب تجاه مشاعري بعدم الانتماء فعلاً لعالم اللون الوردي الذي فُرض علي دون أن يكترث أي شخصٍ برأيي حول هذا الأمر.. الذنب تجاه رغبتي في استبداله بعد أن توغلت به وعلمت بأني لا أنتمي إليه أبداً.

كانت بداية تعرفي على “الذنب” حينما أخبرت والدتي بصوتٍ هامس خائف عن شعوري بأني ذكر ولست بفتاة.. حينها كادت أن تفقد صوابها وهي تصرخ “سيعاقبكِ الرب إن لم تكفِ عن هذا الحديث”..حينها تعلمت أول قواعد اللعبة في التعامل مع مثلثٍ طرفاه الآخران هما أسرتي والرب وأقبع أنا مُنزوية منكمشة على نفسي في طرفه الآخر البعيد.. القاعدة الوحيدة لهذه اللعبة هي ركوب أرجوحة تتمايل بي بين الصمت والذنب..الصمت تجاه كل فكرة تتعلق إما بهويتي الجندرية أو جنسانيتي.. فلا تثق أبداً بتفهم أي شخص من مجتمعٍ لا يدرك وجود لون آخر غير الوردي والأزرق.. هما لونان فقط لا ثالث لهما.. لونان قيل لك أن الرباختارهما، فمن تكون أنت لتجادله في ذائقته الفنية تجاه الألوان!!.

العمل الفني: عود نصر

و لأن الرب يعاني من حالة صمتٍ مُزمن كانت معلمة مادة الدين هي نافذتي الوحيدة لأعلم كيف يفكر ذلك الكائن الصموت حول ما يحدث معي وبداخلي.. لهذا عندما كانت تحاضرنا تلك المعلمة عن عرش الرحمن الذي يهتز بسبب أي قبلةٍ بين شخصين من ذات الجنس، كنت أشعر حينها بالخوف يحتلني بسرعة تشابه سرعة التهامك لحلواك المفضلة.. فهل يمسك الرب الآن بعدسةٍ مُكبِّرة ليراقبني بها أو -على وجه الدقة- ليراقب مقدار ذلك البلل الغريب الذي يبدأ في التدفق من الأسفل في كل مرةٍ تقترب فيها مني زميلتي في الصف مُبتسمة؟؟..هل يقيس مقداره ليحدد درجة حرارة الجحيم التي تليق بي؟؟.. هل يمكنني إسقاط الرب بهذه السهولة من على عرشه بمجرد قبلة -لم أكن حينها أحلم بأكثر من ذلك- مع تلك الفتاة التي كنت أهرول إلى المدرسة فقط لأراقب شفتيها وأتخيل ماذا سيحدث بي إن تمكنت من تقبيلهما!!..هل يرى الرب بعدسته المُكبِّرة تلك أني في حقيقة الأمر ذكرٌ حُبس في الجسد الخطأ ولهذا فإن مشاعري تجاه الأنثى هي مشاعر مغايرة تتوافق مع “فطرته” وشريعته الدينية فلا يجب أن أُعاقب بسببها؟؟.. مخاوف عديدة كانت تعتصر روحي بقبضتها الباردة لتزيد من مقدار ذلك الذنب الذي كان يستمتع بتضخمه بداخلي وبقدرته على القضاء علي إما بتمزيقي بمخالبه أو بسحقي تحت أقدامه بعد أن يملَّ مني..وكما يكون للصلاة الدينية بضعة أركانٍ تختلف من دينٍ إلى آخر، أصبح ذلك الذنب هو كعبتي التي أدور حولها..لقد ازداد الازدحام بداخلي وما هذا الجسد إلا ملكيةٌ اشتراكية يخضع لنظام المحاصصة لعدة أطراف تحاصرك وتذكرك بأنه ليس لك لوحدك بل لأسرتك..للمجتمع..للدين..وحتى للإله.

الفرار
كانت ترعبني مشاعري “المختلفة” عن محيطي ذو الميول الثنائية الإجبارية بل كنت أجدها عاراً يجب أن أجيد إخفائه..حينها لم تكن عبارات مثل “اضطراب الهوية الجندرية” أو “عابر جنسياً” ألفاظ معروفة علمياً في محيطي ناهيك عن قبولها دينياً..لهذا كل ما كان يتم تلقيني إياه حينها هو أن الشيطان يعبث بمن هم على شاكلتي ليشتهوا أشباههم..نعم..لقد تملك الشيطان هذا الجسد وأغرقه في رجس الخطيئة ولم يعد لي من سبيل إلى النجاة إلا عن طريق إنكار كينونتي الجنسانية أو في أفضل الأحوال ردمها بمزيدٍ من التراب كلما حاولتَ أن تطل برأسها من تلك الحفرة العميقة التي ألقيتها فيها..هل تدرك مدى قسوة الأمر؟؟..لا؟؟..لا ألومك للحظة..فتلك أمورٌ لن يدرك مدى بشاعة تفاصيلها إلا من ذاق من كأسها..كأس الفرار من الذات.

لعل أقرب وصفٍ للأمر هو كأنك تطبق براحتيَّ يديك حول عنقك..لن تلفظ أنفاسك بالطبع وسترتخي في آخر الأمر قبضتك من حولها لأنك ما زلت ترغب بالحياة مهما كانت بشاعة جحيم الجسد والهوية الذي أصبحت دائم الإقامة فيه بسبب ازدحامك بهم.. ولكنك تتوق إلى امتلاك الإرادة الكافية لعدم ترك تلك القبضة ترتخي.. ترغب على الأقل باختفاء ذلك الجزء منك.. أن يموت ويندثر.. ذلك الجزء المحمل بذنب اختلافك المزعوم من قبلهم.. ذلك الجزء الذي أخبروك بأنه طريقك للهلاك إن لم تقم بتهذيبه ليلتحق بطابور الثنائية الجنسانية الإجباري.

و لكن كما قال الإمام علي بن أبي طالب: “كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ”..ولعل هذا ما حدث لي حرفياً..فلم تكن المشكلة حقاً في كوني شخص “مختلف” جندرياً أو جنسانياً..كانت معضلتي الحقيقية هي أني شخصٌ طبيعي جداً ولكنه وجد أن جسده قد بات مزدحماً أكثر مما يجب..مزدحمٌ بـ “العيب” و”الحرام” و”الذنب” والمجتمع وبمقدار بَلَل جزئه السفلي العصي عن الجفاف وبصوت معلمة الدين وعدسة الإله المُكبِّرة.. كل ذلك الازدحام الذي كان بداخلي جعلني في نهاية الأمر أعود إلى نقطة الصفر أو الوعي إن أردتُ أن أكون أكثر دقة..فلم تكن “أنا” هي معضلتي ولم يكن جسدي يعاني من خللٍ ما يستوجب مني البحث عن وسيلةٍ لتطهره من كينونته..كانت معضلتي الحقيقية هي أن جسدي كان مزدحمٌ بهم أكثر مما ينبغي إلى أن كدت أن أُطرد منه..لهذا كان يجب أن أكف عن الفرار مني ومنهم وأن أطردهم جميعاً لأستعيدني ولأتمكن من الجلوس معي في هدوءٍ وسلام من دون وجود كل هؤلاء الضيوف ثقلاء الظل.